سوريا 2019: احتلالات تكشف سوأة النظام قبل الغزاة

بعد أن شهد العام السوري 2019 حملة عسكرية ثالثة على إدلب، أوائل أيار (مايو)؛ وحملة رابعة، أواسط تشرين الثاني (نوفمبر)؛ كان منطقياً أن يعمد النظام، مدعوماً بالطيران الحربي الروسي والميليشيات الموالية المحلية والدخيلة، إلى اختتام العام بحملة خامسة، أشدّ وحشية وشراسة، وأوسع استخداماً لأسلحة الإبادة والتدمير الأقذر، وأوضح هدفاً من حيث اقتلاع المدنيين من قراهم وبلداتهم واشجار الزيتون التي حوَلوها إلى بيوت، وتهجيرهم إلى العراء والمجهول. أهداف هذه الحملة الأخيرة لم تتغير كثيراً عن أغراض الحملات الأربع السابقة، ويمتزج فيها 1) هدف قضم المزيد من الأراضي، خاصة في مناطق جنوب غرب المحافظة؛ و2) مبدأ تفكيك الاجتماع السوري المدني (الذي تجمّع، أو أُجبر على التجمّع، في قرى وبلدات ومدن المحافظة، وافداً من حماة (22%)، وحلب (21%)، وحمص (5%)، ودير الزور (4%)، وريف دمشق (4%)، ومناطق أخرى (28%)؛ إلى جانب الـ14% من سكان المحافظة الأصليين)؛ و3) تفريغ اتفاقيات أستانة وسوشي، بصدد ما تبقى من خرافة «خفض التصعيد» والتفاهمات أوّلاً، ثمّ التذكير بأنّ التفاهمات الروسية ــ التركية حول إدلب يمكن أن تتبدل وتتحوّل أو حتى تنقلب إلى حبر على ورق.

كان منتظَراً، كذلك، ان يسكت الجيش التركي عن هذه الجولة الخامسة، كما سكت على الجولات السابقة، رغم أنّ أنقرة تتشبث بموقع الراعي الإقليمي للأمر الواقع في محافظة إدلب؛ إنْ لم يكن اتكاءً على إدارة جيشها لـ12 مركز مراقبة في الشمال السوري، فعلى الأقلّ بسبب عمليتَين عسكريتين في حالة تفعيل («درع الفرات» و»نبع السلام»)، وبسبب «الجيش الوطني»، الذي أنشأته تركيا وينتشر في شمال حلب. لا أحد، بالطبع، ينتظر من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن يأمر المقاتلات التركية بالتصدي لبراميل بشار الأسد أو قاذفات فلاديمير بوتين؛ إذْ في وسع الناطقين باسمه إعلامياً (وبينهم بعض «المعارضين» السوريين، للتذكير!) أن يحيلوا الصمت التركي إلى تعاقدات ثنائية مع موسكو حول تقليم أظافر «هيئة تحرير الشام»، وهو إجراء يمكن أن يشمل توجيه ضربات عسكرية مصغرّة، كما حدث مراراً في الماضي. وفي نهاية المطاف، ماذا يمكن لرجل اجتاح مئات الكيلومترات في العمق السوري أن يقول على سبيل معارضة الأسد وبوتين في إدلب؟ وأما تهجير عشرات الآلاف من أبناء معرّة النعمان أو جرجناز أو القرى والبلدات التي دكها النظام السوري والغزاة الروس، فإنّ لدى أردوغان ذلك الخطاب الجاهز، الصالح للاستخدام في المدى المنظور والبعيد، حول عجز تركيا عن استقبال المزيد من اللاجئين السوريين، وإنذار أوروبا/ ابتزازها بأنّ العبء الثقيل لا يمكن أن يظل تركياً فقط. ثمة، هنا تحديداً، هامش مشروع للتفكير في نظرية مؤامرة من الطراز الذي يتيحه منطق المعطيات الميدانية الأبسط: إذا كانت تركيا عاجزة عن، وغير راغبة في، استقبال المزيد من موجات اللجوء، وهي بالتالي لن تمكّنهم من العبور إلى أوروبا عبر بوّابات تركية مفتوحة على مصاريعها؛ فهل التوطين الوحيد المتاح أمام هؤلاء اللاجئين هو الأرض السورية ذاتها، ولكن تلك التي احتلها الجيش التركي في سياق «نبع السلام» وينوي طرد الأكراد منها على سبيل التطهير العرقي، الذي لا تسمية أخرى تنطبق عليه في نهاية المطاف؟ في عبارة أخرى، ما الذي يضير موسكو، راعي النظام السوري، أنّ الاجتماع السوري الذي تجمّع في إدلب، يمكن أن يتبعثر تدريجياً ومنهجياً في عشرات القرى والبلدات التي احتلتها القوات أنقرة الغازية، على طول الحدود السورية ــ التركية؟ ما كان منتظَراً، ثالثاً ومنطقياً، هو ثبات «هيئة تحرير الشام»، التي تُحكم على إدلب قبضة جهادية وعسكرية وأمنية ومافيوزية منذ أكذوبة «تحرير» المحافظة في ربيع 2015، على سلوك مماثل مطابق لأدائها خلال الحملات الأربع السابقة. ولعلّ الجديد الوحيد انكشاف طبائع العلاقة بين «الهيئة» وأجهزة الاستخبارات والقيادات العسكرية التركية، ليس لجهة تنزيه هؤلاء عن إي إثمّ بحقّ «الجهاد الشامي»، أسوة بـ» الإمبراطوريتين الروسية والصفوية الإيرانية»، فحسب؛ بل كذلك التزام صمت القبور (كما فعل أبو محمد الجولاني في كلمته المصوّرة مؤخراً) عن كلّ فعل أو خيار أو موقف أو صفة… على صلة برعاة «الهيئة» الأتراك. وفي ذروة القصف الوحشي وتساقط الشهداء، من الأطفال والشيوخ والنساء أوّلاً، بقيت «الهيئة» وفية للسلوك المماثل المطابق إياه؛ تختار من «ساح الجهاد» ما تحلّ فيه يوماً، كي تغادره بعد يوم؛ ولا «شعب» تكترث له خارج تعريف زائف لـ»أمّة الإسلام»، يرتبط بالغيب أكثر من اتصاله بالبشر؛ ولا «اجتماع» عندها يتجاوز ما يُجمع عليه «أمير الجماعة»، أو ولاته؛ ولا قتال إلا ما تأذن به، حتى لجهاديين أشقاء أمثال «حرّاس الدين» و»أنصار التوحيد»! العام السوري 2019 شهد، أيضاً، وخلال الأسبوع ذاته أواخر شباط (فبراير)، زيارة رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى موسكو، وزيارة رأس النظام السوري بشار الأسد إلى طهران؛ حيث العلاقة بين الزيارتين لا تقتصر على التزامن بالمصادفة، بل التقاطع في كشف حال العلاقات الروسية ــ الإسرائيلية مقابل تلك السورية ــ الإيرانية. ففي الملفّ الأوّل ثمة إحصائية دالّة في ذاتها تقول إنّ اللقاءات بين بوتين ونتنياهو بلغت 15 اجتماعاَ منذ أن اتخذ الرئيس الروسي قرار التدخل العسكري المباشر في سوريا؛ وأنّ نتنياهو حظي من بوتين بهدية ثمينة هي دبابة إسرائيلية كان الجيش السوري قد غنمها في سهل البقاع اللبناني، سنة 1982، وأهداها النظام إلى متحف سوفييتي، ليعيد بوتين تسليمها إلى دولة الاحتلال. في المقابل، بصدد الملفّ الثاني، تقول المعطيات إنّ معظم القتلى في صفوف جيش النظام لم يسقطوا، خلال الأشهر الأخيرة، في القتال مع المعارضة المسلحة على اختلاف فصائلها؛ بل جراء المواجهات المسلحة الضروس بين ميليشيات إيران والنظام وكتائب الفرقة الرابعة، من جهة؛ وميليشيات سهيل الحسن وكتائبه التي تدعمها القوات الروسية، في ريف محافظة حماة ومنطقة الغاب، من جهة ثانية. وقد لا يصحّ، سياسياً وأخلاقياً، إيجاز حصيلة العام السوري 2019 دون تكريم شهداء سوريا الذين سقطوا تحت القصف أو في ميادين الدفاع عن الأرض؛ واستذكار أحد هؤلاء على وجه الخصوص، عبد الباسط ممدوح الساروت (1992 ــ 2019)، ليس لأنه يمكن أن ينوب عن شهداء كثر سواه؛ بل لأنه، ، للمفارقة الرفيعة والنادرة، امتلك من أسباب الواقع والرمز ما يكفي كي يكون نسيج ذاته وصنيعة انفراده، حتى وهو يستكمل الكثير من اصفى عناصر النماذج الاستشهادية الكبرى في سوريا ما بعد انتفاضة 2011. والساروت، مجدداً، لم يكن نسخة أخرى مكمّلة أو متطابقة مع أمثال غياث مطر أو باسل شحادة في صفّ النشطاء المدنيين؛ ولم يكرّر نماذج شهداء عسكريين، أمثال «أبو فرات» وعبد القادر الصالح؛ بل كان تكثيفاً مأساوياً بليغاً لمآلات انتفاضة بدأت سلمية، وسيقت إلى السلاح بحكم وحشية النظام وصعود الجهاديين، وكذلك بسبب الحاجة في حدودها الدنيا، القصوى والأقرب إلى الضرورة وخيار الدرجة صفر. عام عاث فيه الغزاة فساداً في سوريا، إذن، وتضافرت فيه احتلالات روسية وأمريكية وإيرانية جديدة مع احتلال إسرائيلي قديم، وميليشيات جهادية ومذهبية تقاطرت من أربع رياح الأرض، و»معارضة» زائفة كاذبة تابعة وأجيرة؛ تكشف سوأة نظام استبداد وفساد بات مجرّد خادم/ دمية، لا تكاد وظائفه تتجاوز التأتأة الإعلامية، وإدارة النهب عن طريق الإمعان أكثر في إفقار المجتمع، ومواصلة ارتكاب جرائم الحرب حيثما أتاح له الرعاة أن يثبت علامة وجود من أيّ طراز.

وسوم: العدد 857