الجيل المثالي

من أيام أفلاطون "430 – 348 ق.م" وكتابه (الجمهورية) ثم من عصر أبي نصر الفارابي "260- 339هــــ" وكتابه (المدينة الفاضلة) إلى زمن السر توماس مور "1478 – 1535 م" وكتابه (يوتوبيا).

من تلك العصور والأزمان - إلى يوم الناس هذا – والإنسانية تحلم بالجيل المثالي الذي يود البشر لو يظفرون به فيتخذونه قدوة لهم في السلم والحرب، والمنشط والمكره، في مختلف أطوار الحياة، ليكون لهم من كماله الإمكاني المثل المقتدى به في كمالهم الإنساني.

هي أمنية من أماني الشعوب والأمم، من أقدم الأزمان إلى الآن تحدّث عنها الحكماء، وتغنى بها الشعراء، وترنم بها رخيم أصوات الهاتفين، وهمس بها صفوة الضارعين والمناجين، من كل صادح أو باغم.

بل إن «الجيل المثالي» هو الذي دعا إلى تكوينه وعمل على تحقيقه الأنبياء من أولي العزم، وهو الذي تمناه الحكماء وأهل العلم، وهو الذي كانت الإنسانية ولا تزال إلى شبحه المرجى في أحلام يقظاتها وفترات غفوتها.

تريث موسى بقومه في آفاق العرش وبرية سيناء وصحارى النقب وحوالي بئر سبع أربعين حولاً يلتحف معهم سحائب السماء ويفترش الغبراء، وهو يحاول أن يربي منهم جيلاً مثالياً يستن بستن الله، ويتخلق بأخلاق الرفق والحزم والتضحية والاستقامة والاعتدال فيرضى بها عن ربه ويرضي ربه عنه، ثم مات موسى ولما يبلغ من أمته هذه الأمنية.

ونبغ في الصين حكيمها الأعظم كونغ فوتس الذي عرفناه من طريق الإفرنج باسم (كونفوشيوس) (550- 479 ق .م) ولا شك أنه كان من أصدق الدعاة إلى أن يتعامل الناس بالمروءة، لكنه لم يرتفع بدعوته إلى تخليص الصين من عبوديتها لابن السماء (الامبراطور، ولا في السماء من شمس وقمر وكواكب وسحائب ورعود وصواعق وأمطار، ولا إلى تخليصها من عبادة الأرض، وما في الأرض من جبال وبحار وأنهار، ولا من أرواح الآباء وما تقيمه في سبيلهم من حدود وسدود وقيود.

وقد أخفق كونغ فوتس في كل ما قام به من دعوة في أرجاء الصين، فعاد إلى بلده يؤلف الصحائف في الدعوة إلى المروءة، وقد رأينا تفصيل ذلك في كتابه (الحوار)، ثم مات وليس له من المتأثرين بدعوته إلا عدد قليل من تلاميذه، وبقيت الصين هي الصين من ذلك الحين إلى الآن...

وأعلن حكماء اليونان مذاهبهم في الحكمة وتهذيب النفس، فصنفوا في ذلك المصنفات، وألقوا به الخطب. وقد اشتطوا في كثير مما صنفوا وخطبوا. وكتاب «الجمهورية» لأفلاطون من أبرز الأمثلة على هذا الشطط. ثم انقضى زمن حكماء اليونان وحكمتهم، دون أن تعمل شعوبهم بما دعوها إليه، لأن الدعوة والمدعوين للعمل بها لم يكونا أهلاً لذلك.

وعالج المسيح في فلسطين عقول مواطنيه من العامة والخاصة ممن كانوا يقصدون هيكل أورشليم، أو يتسلقون جبل الزيتون ويترددون على شواطىء بحيرة طبريا وحقول أرض الجليل وحدائقها، فلم يستجب لدعوته إلا عدد ضئيل لا يكاد يسمى جماعة فضلاً عن أن يكون أمة.

إن الإنسانية، من أقدم زمانها، وفي مختلف أوطانها، لم تشهد «الجيل المثالي» إلا مرة واحدة حين فوجئت بإقباله من صحارى أرض العرب يدعو إلى الحق والخير بالقوة والرحمة، فكان ذلك مفاجأة عجيبة لكل من شهد هذا الحادث التاريخي الفذ من روم وفرس وآراميين وكنعانيين وعبريين ومصريين وليبيين وبربر وماندال ولاتين وسكسونيين وصقلبيين وغيرهم.

كانت المفاجأة - بمصدرها وكيفيتها، وأطوارها - ثم كانت عجيبة العجائب بنتائجها التي لا تزال من معجزات التاريخ.

أين كان هؤلاء؟ وكيف تكونوا على حين غفلة من الأمم؟ وما هذه الرسالة التي يحملونها؟ وكيف نجحت؟ وما هي وسائل نجاحها؟

سلسلة من الأسئلة لا يكاد الناس يتساءلون بأولها حتى يفاجؤوا بما ينسيهم تاليه أوله. إلى أن رأوا من صفات هذه الأمة المثالية ما أيقنوا به أنها تحمل إلى الانسانية رسالة الحق والخير، وأنها تترجم عن رسالتها بأخلاقها وسيرتها وأعمالها، وأن الذي اعتقدته وتخلقت به ودعت الأمم اليه هو الحق الذي قامت به السماوات والأرض.

وكما تساءل الناس عن هذه العجائب في زمن وقوعها، ثم أنساهم بعضها بعضاً، كذلك نحن نتساءل اليوم عن كثير من أسرارها. بالرغم من ضياع العدد الأكبر من المراجع فيما احترق من بيوت الفسطاط ومدارسها وجوامعها مدة أربعة وخمسين يوماً، وفيما غرق بمياه دجلة أيام ابن العلقمي ومستشاره ابن أبي الحديد، وفيما خسرناه بضياع الأندلس وكوارث الحروب الصليبية، وفيما فرطنا به في أزمان الجهل والانحطاط - بالرغم من كل هذا - فإن النفوس استيقظت الآن لدراسة أحوال «الجيل المثالي الفذ الذي عرفته الدنيا، ولنقد الأصيل والدخيل من أخباره، وتحليل عناصر الخير التي انطوى عليها، ومعرفة الأسباب التي صار بها جيلاً مثالياً لتستفيد الإنسانية من الاقتداء به والتأسي بسننه وأخلاقه وتصرفاته.

وأول ما نعلمه ونؤمن به من أسباب الكمال في هذا الجيل المثالي أنه تلقى تربيته على يد معلم الناس الخير خاتم رسل الله المبعوث بأكمل رسالات الله صلى الله عليه وسلم؟ إن هذا السبب في طليعة أسباب الكمال لهذا الجيل المثالي، لا يشك في ذلك عاقل فضلاً عن مؤمن. ولكن يحق لنا أن نتساءل: ألم يكن موسى أحد المبعوثين برسالات الله؟

ألم يتح لموسى أن يعاشر قومه في الحل والترحال معاشرة تربية ودعوة أكثر من أربعين؟ ومع ذلك فقد جاء في "سفر العدد" من التوراة الموجودة الآن في أيدي قومه (14:26 -27) ما نصه:

«وكلم الرب موسى وهارون قائلاً: "حتى متى أغفر لهذه الجماعة الشريرة المتذمرة علي؟" "في هذا القفر تسقط جثثكم جميعاً، المعدودين منكم حسب عددكم، من ابن عشرين فصاعداً الذين تذمروا علي".

أين من - أصحاب موسى هؤلاء - أصحاب محمد عليهما صلاة الله وسلامه يوم سار بهم إلى بدر وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ليناجزوا ثلاثة أضعافهم من أهل الرجولة والحماسة والبأس، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم بهذه القلة القليلة من أصحابه وادي زفران، أراد أن يختبر إيمانهم، فأخبرهم عن قريش، واستشارهم في الموقف، فقام الصديق الأعظم أبو بكر فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب الذي أعز الله به الإسلام فقال وأحسن، ثم قام فارسهم المقداد بن عمرو «الأسود الكندي فقال: «يا رسول الله ، امض لما أراك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه» فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشيروا علي أيها الناس). فقال له سعد بن معاذ سيد الخزرج وأقوى زعيم في الأنصار: «والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟» قال: «أجل» قال سعد: «فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئتنا به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى عدونا غداً. إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله». وقد كان عملهم أبين من قولهم وأصدق.

هكذا كانوا في مواقف البأس وعند الشدائد. ورأيناهم في تحري الحقوق وإذعانهم للإنصاف والعدل في حياتهم السلمية كما تحدثت عنهم أم سلمة رضي الله عنها فيما رواه عنها الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه قالت: «جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث قد درست ليس بينهما بينة فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم تختصمون إليّ، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي به اسطاماً في عنقه يوم القيامة فبكى الرجلان، وقال كل واحد منهما: حقي لأخي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إذا قلتما ذلك فاذهبا فاقتسما ثم توخيا الحق، ثم استهما - أي اعملا قرعة على القسمين بعد قسمها -، ثم ليحل كل واحد منكما صاحبه». وهذان الرجلان المثاليان في الإيمان بالحق لا نزال إلى الآن نجهل اسميهما لأنها من عامة الصحابة لا من خواصهم الممتازين بالفضائل الإنسانية النادرة المثال كالعشرة المبشرين بالجنة وطبقتهم ممن اختصهم النبي بالمكانة والمناقب، وهذه الطريقة في تربية محمد لأصحابه على محبة الحق، واستجابة أصحابه له فيما أحب أن يكونوا عليه، قد أشاعت هذا الخلق في الخاصة والعامة من أبناء ذلك الجيل المثالي. فلما كانت خلافة الصديق الأعظم رضوان الله وسلامه عليه، ناط منصب القضاء برمز العدالة في الإنسانية - وهو عمر بن الخطاب - فكانت تمر على عمر الأشهر ولا يأتيه اثنان يتقاضيان عنده، وأي حاجة بهذه الأمة المثالية إلى القضاء والمحاكم وهي أمة الحق ومن أخلاقها أن تتحرى الحق بنفسها فلا تحتاج إلى تحكيم القضاء فيه. بل إن الطبقة الدنيا في هذا الجيل وأحوالها وأخلاقها معروفة في كل جيل وقبيل وهم ممن يستطيع الشيطان في العادة أن يغلبهم على إرادتهم في بعض الأحيان فيقعون في زلة يستوجبون عليها الحد الشرعي، فإن من أعجب ما وقع في تاريخ البشر أن يأتي من يقع في شيء من تلك الزلة من أهل تلك الطبقة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعترف بزلته، ويلح بلجاجة وإصرار على طلب إقامة الحد عليه وفي ذلك حتفه ليتطهر مما دنسه به الشيطان.

وكان نبي الرحمة إذا رأى هذا الإيمان العجيب في هذه الطبقة من أصحابه الطيبين يحاول جهده أن يدرأ الحد عنهم بكل ما يجيزه الشرع، فيأبون إلا أن يتعجلوا عقوبة الدنيا ليتقوا بها عقوبة الآخرة.

وهذه الملاحظة عن هذه الطبقة بالذات - قد سبق إلى التنويه والتحدث عنها إمام كبير من أئمة أهل البيت من زيدية اليمن، وهو الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة بن سلمان بن حمزة - المتوفي ببلدة كوكبان باليمن سنة 614 نقل ذلك عنه عالم الزيدية في القرن التاسع السيد محمد بن إبراهيم بن علي المرتضى الوزير (775 -840)  في كتابه (الروض الباسم) (1: 55-56) فذكر تلك الطبقة وقال: "إن أكثرهم تساهلاً في أمر الدين من يتجاسر على الإقدام على الكبائر لا سيما معصية الزنا.. وذلك دليل خفة الأمانة ونقصان الديانة، بأننا نظرنا في حالهم فوجدناهم فعلوا ما لا يفعله من المتأخرين إلا أهل الورع الشحيح، والخوف العظيم، ومن يضرب بصلاحه المثل ويتقرب بحبه إلى الله عز وجل، وذلك أنهم بذلوا أرواحهم في مرضاة رب العالمين وليس يفعل ذلك إلا من يحق له منصب الإمامة في أهل التقوى والدين" أي أن طبقة الدهماء في ذلك الجيل المثالي - ممن قد يقعون في الكبائر - كان لهم من صدق الإيمان والاستقامة على الحق ما يرفعهم إلى مرتبة من يحق له منصب الإمامة في أمة من أهل التقوى والدين، فكيف بخاصة الصحابة الذين نزههم الله عز وجل عن أصغر الهفوات ورفعهم إلى أعلى الدرجات. ولولا أن النبوة ختمت بمربيهم وهاديهم إلى الحق صلى الله عليه وسلم لما كان مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أقل من الأنبياء الذين سلفوا في الأمم الأخرى.

وإن هذا الذي يتكلم عن الزناة من دهماء الصحابة واستحقاقهم لمنصب إمامة إمام من علماء أهل البيت، يعني ما يقول ويعلم معنى أقواله، لكنه رأى هذه الطبقة في ذلك (الجيل المثالي)، قد صدر عنها من صدق الإيمان ما لم تر أمة من أمم الأرض مثله فحكم بعلمه وكان منصفاً لنفسه، وللحق، ولدعوة الإسلام وآثارها في أهلها الأولين.

وقد علق على كلام الإمام المنصور بالله علامة الزيدية السيد محمد بن إبراهيم الوزير (1: 56 – 57) من (الروض الباسم) قائلاً يخاطب قارئ كتابه: فأخبرني على الإنصاف: من في زماننا - وقبل زماننا - من أهل الديانة سار إلى الموت نشيطاً وأتى إلى ولاة الأمر مقراً بذنبه مشتاقاً إلى لقاء ربه، باذلاً في رضا الله روحه ممكناً للدعوة أو القضاء من الحكم بقتله؟! وهذه الأشياء تنبه الغافل، وتقوي بصيرة العاقل. وإلا ففي قول الله تعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس" كفاية وغنية، مع ما عضدها من شهادة المصطفى عليه السلام بأنهم «خير القرون» وبأن غيرهم «لو أنفق مثل أحد ذهباً ما مبلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه» إلى أمثال ذلك من مناقبهم الشريفة ومراتبهم المنيفة» ونعود إلى المقارنة الأولى بين أمة محمد وأمة موسى عليه السلام - وكلاهما من الأولياء أولي العزم - وموسى أتيح له من الوقت لتربية أمته ضعف الوقت الذي أتيح لمحمد في تربية أمته، فكيف نالت أمة محمد هذه المكرمة فكانت «الجيل المثالي» الذي خلده الله عز وجل في القرآن بقوله في سورة آل عمران 110: "كنتم خير أمة أخرجت للناس"، بينما الجيل الذي كان مع موسى استحق أن يدمغ بما ورد في سفر العدد (14: 26- 27و29) كما نقلناه آنفاً عن التوراة التي يطبع منها في كل سنة ملايين النسخ بكل اللغات.

أنا فكرت في هذا الأمر كثيراً من خمسين سنة إلى الآن ومن ذلك الحين وأنا أراقب كل ما يقع عليه نظري من تحقيقات العلماء وخطرات أفكارهم لأصل إلى حكمة الله في هذا الامتياز الذي اختص به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلهم (الجيل المثالي) الوحيد الذي عرفه تاريخ الإنسانية.

فكرت في معادن الأمم ومواهبها، وسجاياها، فراقبتها جميعاً وهي في بداوتها - أي في مادتها الخام ـ قبل أن تطرأ عليها الحضارات والعلوم المكتسبة والصناعات والأنظمة الاجتماعية التي هي من صنع التشريع البشري، فتبين لي أن الأمة التي منها الجيل المثالي في الإسلام، امتازت في بداوتها على كل أمة أخرى في بداوتها بسعة المدارك ونضوج العقل ودقة المشاعر وجودة الأخلاق، وأنها امتازت في بداوتها بلغة هي أرقى على الإطلاق من كل لغة أخرى للبشر في طورهم البدوي. وكل رقي لأي لغة أخرى غير اللغة العربية هو من أثر الحضارة واتساعها الحادث في الصناعات والعمران والفنون والثروة. ولو أن عالماً من علماء اللغات أمسك بيده قلماً بالمداد الأحمر وشطب به كل لفظة في المعجم الألماني أو الإنجليزي أو الفرنسي، يرى أنها من الألفاظ التي حدثت بعد التقدم الصناعي أو العلمي أو الاقتصادي أو الفني، ولم تكن للألمان أو الإنجليز أو الفرنسيين في بداوتهم، لما بقي لهذه الأمم في أكبر معاجمها اللغوية إلا ما يعادل نصف جزء من أجزاء لسان العرب العشرين إن لم يكن أقل من ذلك. والعرب لما استفحل ملكهم وصارت لهم جيوش عظيمة وإصلاحات عسكرية وإدارية وفلسفية وعلمية وصناعية أبي علماؤهم أن يقحموا على معاجمهم وأصل لغتهم هذه الاصطلاحات الطارئة، فألفوا كتباً مستقلة للاصطلاحات وبقيت معاجم اللغة تمثل أصل اللغة بشواهدها من شعر العرب وحكمتهم وأمثالهم في أيام بداوتهم، فهي برهان حسّي قائم أمام الأنظار على ما امتازت به العربية بين جميع اللغات التي نطق بها البشر، وما امتازت به الأمة التي ظهر فيها «الجيل المثالي» إنسانيتها العليا في معاملة الغير وإكرامه بالأمن والقرى. وإذا استثنينا ما يكون في حالة الحرب بين القبيلة وغيرها من العرب، فإن جزيرة العرب من أقدم أزمانها إلى هذه الساعة أعظم بلاد الله أمناً على الاطلاق، ينتقل فيها من شاء حيث شاء فيجد لنفسه فندقاً مجانياً عند كل بصيص نور يعشو إليه في الليل، أو أي خباء يلوح له في النهار، وله حق الضيافة ثلاثة أيام بلا منّ عليه ولا فضل لمضيفيه. ومن آداب الضيافة عندهم ألا يسألوا ضيفهم حتى عن اسمه. وكان عندهم الأمن المطلق حتى للحمام والظباء وسائر الصيد في داخل أعلام الحرم في جميع أيام السنة، ولو لقي الرجل قاتل أبيه في أرض الحرم ما كان له أن يروعه أو يزعجه. أنا مقتنع كما اختار الله محمداً صلى الله عليه وسلم لأكمل رسالاته وآخرها، اختار كذلك العربية لكتابه الحكيم، لأنها أكمل اللغات وأغناها. واختار أيضاً لرسوله أصدق الأمم وأكرمها معدناً وأجمعها الصفات التي تكفل نجاح هذه الدعوة وتقوى بها على حمل هذه الأمانة فكانت بها خير أمة أخرجت للناس. وقد دعت إلى الإسلام بسيرتها وأخلاقها وتصرفاتها، فتعرفت الأمم إلى الرسالة المحمدية بما رأت العيون من سيرة الصحابة، أكثر مما سمعته الآذان من بيانهم. وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما استجابوا لهذه الرسالة وتشرفوا بالدخول في الإسلام كانوا متفاوتين في مبلغهم من سجايا أمتهم فبعضهم كان أسرع إدراكاً من بعض، وإذا امتاز أحدهم على أخيه بناحية من نواحي الخير، كان لأخيه ناحية أخرى من الخير يمتاز بها. كان أبو بكر أسبق من عمر إلى إدراك الحق في دعوة الإسلام لكن عمر حتى في أشد عصبيته على الإسلام - يوم بلغه إسلام أخته وابن عمه وجاء ليبطش بها - طرقت سمعه صيحة من صيحات الحق التي يهتف بها الإسلام، فبردت عصبيته وتغلب نزوعه للحق على نزوعه لنصرة الإلف، فكان - في خلال دقيقتين اثنتين – من أكرم أنصار الحق على الله، ومن أسرع البشر إلى الاستجابة لنداء الحق. وخالد بن الوليد كان شاباً من أبناء الأعيان من رؤساء قريش، سكر بخمرة النصر على المسلمين في أحد، وعاد إلى مكة نشواناً بها، لكن الحق الذي كان الإسلام يهتف به كان يطرق مسامع خالد، فتأمل فيه فوجده حقاً، فترك ثروة أبيه وجاهه ومربط خيله الواسع في مكة، وخرج قاصداً إلى المدينة ليدخل في دين الذين حاربهم وانتصر عليهم، فلقي في طريقه عمرو بن العاص حامل مفتاح الكعبة، وعلم أنهما مثله قد تبين لها الحق وخرجا في طلبه والالتحاق بأهله والجهاد في سبيله فقال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم عند بلوغهم المدينة: «رمتكم مكة بأفلاذ أكبادها».

مثل هذه الأخلاق كثيرة جداً في الجيل المثالي الذي صنع أصحابه، ولكننا قلما نجد ذلك شائعاً في الأمم الأخرى. نعم إن الخير موجود في كل الأمم ولكن لا إلى الحد الذي دوم به الجيل المثالي، ولذلك كان أصحاب محمد خير أمة أخرجت للناس.

بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما روى البخاري في صحيحه الكتاب (الكتاب 61- الباب الأول) من حديث أبي زرعة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: «تجدون الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» وما لا شك فيه أن العرب كانوا على وثنية ولكن من من الأمم لم يكن عند ظهور الإسلام من أهل الوثنية بمختلف معانيها؟ إلا أن العرب كانوا أحدث الأمم في وثنيتهم، لأنها طرأت عليهم قبيل الإسلام بمئات قليلة على يد عمر ابن لحي الخزاعي في خبر طويل لا يتسع المقام للإفاضة فيه.

وكانت العرب قبل ذلك من أهل الحنيفية دين إبراهيم وإسماعيل، وبنو إسماعيل انتشروا من مكة وتوطنوا في جميع البقاع الشمالية من جزيرة العرب إلى أسوار مدينة دمشق. ومن العرب من كانوا على دين شعيب، وقد ترك التاريخ لنا نصوصاً في هذا المعنى. وهذه الوثنية الطارئة على العرب لم يكن لها عندهم من الهياكل والسدنة والتهاويل ما يضارع الذي لها عند غيرهم، فكانوا أقرب أمم الأرض إلى دين الفطرة، وبذلك استحقوا ثناء الله عليهم فيما جاء بسورة البقرة: 143 "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً، وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وإن كانت الكبيرة إلا على الذين هدى الله، وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم"، وما جاء في سورة الأنفال 64: "يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين". وما جاء في سورة التوبة 100: "والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم".

نقل الحافظ ابن حجر في الإصابة (3:2 طبعة السلطان عبد الحفيظ) عن الزبير بن بكار «أن رجلاً قال لعمرو بن العاص: ما أبطأ بك عن الإسلام، وأنت أنت في عقلك؟ قال: إنا كنا مع قوم لهم علينا تقدم يعني أباه ومن هم في طبقته ـ وكانوا ممن توازي حلومهم الجبال، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم، فأنكروا عليه، قلدناهم، فلما ذهبوا وصار الأمر إلينا نظرنا وتدبرنا، فإذا حق بيّن، فوقع في قلبي الإسلام، فعرفت قريش ذلك مني، من إبطائي عما كنت أسرع فيه من عونهم عليه، فبعثوا إلي فتى منهم فناظرني في ذلك، فقلت: أنشدك الله ربك ورب من قبل ومن بعدك: أنحن أهدى أم فارس والروم؟ قال: نحن أهدى - يعني الصدق والعدالة والأمانة والتعاون المحمود - قلت: فنحن أوسع عيشاً أم هم؟ قال: هم. قلت: فيما ينفعنا فضلنا عليهم إن لم يكن لنا فضل إلا في الدنيا وهم أعظم منا فيها أمراً في كل شيء؟ وقد وقع في نفسي أن الذي يقوله محمد - من أن البعث بعد الموت ليجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته - حق، ولا خير في التمادي في الباطل".

إن المسلمين - بل الإنسانية كلها - أشد ما كانوا اليوم حاجة إلى معرفة فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكرم معدنهم وأثر تربية فيهم، وما كانوا عليه من علو المنزلة التي صاروا بها «الجيل المثالي» الفذ في تاريخ البشر. وشباب الإسلام معذور إذا لم يحسن التأسي بالجيل المثالي في الإسلام، لأن أخبار أولئك الأخيار قد طرأ عليها من التحريف والأغراض والبتر والزيادة وسوء التأويل في قلوب شحنت بالغل على المؤمنين الأولين، فأنكرت عليهم حتى نعمة الايمان! وقد أصبح من الفرض الديني والقومي والوطني على كل من يستطيع تصحيح تاريخ صدر الإسلام أن يعتبر ذلك من أفضل العبادات، وأن يبادر له ويجتهد فيه ما استطاع، إلى أن يكون إمام شباب المسلمين مثال صالح من سلفهم يقتدون به ويجددون عهده، ويصلحون سيرتهم بصلاح سيرته.

وهذه المعاني تحتاج إلى دراسات علمية عميقة، ليتبين لنا سر الله في تكوين هذا «الجيل المثالي» على يد حامل أكمل رسالات الله. وإن فصلاً كهذا أضيق من أن يلم - ولو بإشارات قصيرة ولمحات سريعة - بمثل هذه المعاني التي تخطر على البال في أثناء المطالعات والتفكير، ونحن نكتفي بتسجيلها ليتخذ منها أذكياء الطلبة والشبان مواضيع للدراسة والتمحيص. والله الموفق..

وسوم: العدد 859