العمل الإسلامي: الثوابت والمتغيرات (3)

حيدر قفه

تحدثنا في المقالتين السابقتين عن الثابت والمتغير، فقدمنا تعريفاً لهما، مع بيان الحد لكل منهما، ثم تحدثنا عن بعض الثوابت التي يلزم عدم المساس بها، وعرجنا على المتغيرات المحتملة في كل ثابت منها، وكان مما تناولناه الثوابت التالية:

1-    الدعوة إلى الله.

2-    الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

3-    التجمع والتنظيم في الدعوة.

4-    شمولية الإسلام.

5-    الوصول إلى القيادة.

ونتحدث في هذه المقالة عن ثوابت ومتغيرات أخرى في العمل الإسلامي.

1-    جهاد الأعداء الواقفين في طريق الإسلام:

إن الله تبارك وتعالى جعل الإسلام آخر الأديان، وفيه الخير للبشرية جمعاء، لأنه الموافق للفطرة الإنسانية، المواكب لتطور الحياة بمرونته. لكن هذا الدين لن يسمح له الأشرار وباغو الضلال أن يتقدم فيحرر الناس من طغيانهم وشرهم، لذا سيعملون بكل الوسائل على محاربته والقضاء عليه، أو عرقلة مسيرته على أقل تقدير، لذا كان الجهاد في الإسلام ركن عظيم من أركان هذا الدين، وثابت من ثوابته، ومن يطالب بإلغاء الجهاد واهمٌ أو جاهلٌ، أو ماكرٌ، فالجهاد باق ما بقيت السموات والأرض، لا يمنعه عز عزيز، ولا ذل ذليل.

والجهاد كما يكون بالقتال، يكون بالكلمة، ويكون بالتفوق الاقتصادي، والإعلامي، والعلمي، ويكون أيضاً بالتفوق المخابراتي... إلخ ما هنالك من مجالات حيوية تتطلبها حياة المسلمين، وواقعهم في كل مكان وزمان. وهذا ما عبر عنه النبي (r) إذ يقول: "المؤمنُ القويُّ([1]) خيرٌ وأَحَبُّ إلى اللهِ – عز وجل – من المؤمنِ الضعيفِ، وفي كلٍ خيرٌ، احرصْ على ما يَنْفَعَك، واسْتَعِن باللهِ ولا تَعْجَزْ، وإِنْ أصَابَك شَيءٌ فلا تَقُلْ: لو أَنِي فَعَلْتُ كان كَذَا وكَذَا، ولكن قُلْ: قَدَّرَ اللهُ، وما شاءَ فَعَلَ، فإِنَّ لو تفتُح عملَ الشيطانِ"([2]).

وفي كلمة "احرص على ما ينفعك" دليل على انفتاح الأمر على سعته في كل شيء يعود على المؤمن بالقوة التي تُصَدِّرَهُ كُلَّ مجالٍ هَدَفَ إليه، وبالتالي يعود هذا بالخير على الدعوة إلى الله، وعلى تثبيت دعائم هذا الدين على الأرض، وهيمنته على الحياة.

ونحن لسنا في حاجة لإيراد مزيد من النصوص القرآنية أو الأحاديث النبوية لندلل على أهمية الجهاد، فهي من الكثرة بحيث تفضح كل مكابر، وتكشف زيف كل مناظر يريد بسلبيته واستنامته للضغوط أن يقنع الناس أو يقسرهم على ترك الجهاد لخطورته على حياتنا المعاصرة – إرضاءً للأعداء – أو خوفاً من الاتهام بالإرهاب.

وإذا كان الجهاد ثابتاً من ثوابت العمل الإسلامي لا يقبل المناقشة في مبدأيته وأهميته، وإلا فُرِّغ العمل الإسلامي من مضمونه وأهم مقوماته؛ إلا أن وسائل الجهاد وأساليبه وطرقه من المتغيرات التي تركها الإسلام للعصور وأهلها، لتواكب تغيراتها ومستجداتها، ولأهل كل زمان ظروفهم. فقوله تعالى: ( ﯨ ﯩ )([3])، فإن القوة هنا لا تعني حصراً "رباط الخيل"، بل وردت بصيغة التنكير لتكون عامة شاملة لكل أنواع القوة، وما "رباط الخيل" إلا مثال يعرفونه، لأنه مظهر القوة في عصرهم، ويبقى الباب مفتوحاً لكل "قوة" تستجد في مستقبل الأيام، فالمسلم أولى الناس في الأخذ بها، ولو أخذها من الأعداء، أو استعان بهم في الوصول إليها... المهم أن يملكها في النهاية ليقاتل بها كل من وقف في طريق هذا الدين أو عرقل مسيرته. ولو قال أحدٌ الآن بحصر القوة في "رباط الخيل" لضحك عليه الناس ولرفضوه في عصر الطائرات والغواصات والصواريخ والإشعاعات والغازات السامة والأسلحة الكيماوية والبيولوجية وكل ما يخطر على البال أو لا يخطر مما يخبئه الله لقادم الأيام.

فالمسلم مطالب بالاستعداد بقوة تؤهله للنصر والعلو والهيمنة، لكن نوع القوة هذه متروك للناس ومستجدات أزمانهم.

والجهاد قديماً – لا سيما في عصر النبي (r) والخلفاء الراشدين – كان انتداباً وبعثاً للحمية، وكان كل مجاهد يتحمل إعداد سلاحه وخيله وطعامه، مع تأمين حاجات أهله وعياله في غيابه إلى أن يعود، وإذا أصيب في المعارك تحمل علاج نفسه ومداواة جرحه، وإذا أصيب بعاهة لم يرجع على الدولة بشيء، كل ذلك طلباً للثواب، فإن أعطي من الغنائم شيئاً فبها ونعمت، وجعلها رصيداً مقوياً للمعارك القادمة، فهو يتدرب ويشتري السلاح، ويجعل كفاءته عالية لحين سماع النفير، فإذا سمعه هب كالأسد الهصور لا يثنيه عن القتال والبذل إلا عائق لا يستطيع دفعه من مرض وغيره، وإلا كان في قرارة نفسه جباناً خواراً، أو منافقاً ضعيف الإيمان، يشعر بالدونية بين أهله وأقرانه.

بَيْدَ أَنَّ العصر الحديث تغيرت فيه الأحوال إلى الأحسن، فقد أصبحت الحكومات تتولى هذه الأمور كلها، فهي تأخذه غِراً قليل الخبرة، فتجري له فحص لياقة، ثم تلحقه بفرق للتدريب الجسدي حتى ترفع كفاءته ولياقته الجسدية، وتنمي قوة التحمل عنده، ثم تدربه على السلاح حتى يبلغ فيه شأواً عظيماً، ثم تدربه على العمل الجماعي حتى يصبح داخل النسيج فلا يضيع أو يهلك، وتصرف له راتباً – معاشاً – يكفيه ويكفي أسرته، وتمده بالطعام والكساء، وتؤمن له العلاج، وتهتم بأسرته وأولاده وأبويه... فإذا حانت ساعة الصفر، ونادى منادي الجهاد تحرك مع زملائه ورفاقه، وهو مطمئن على نفسه وحاجياته من طعام وعلاج وسلاح وذخيرة، ومطمئناً على من وراءه من زوجة وأبناء ووالدين... فإذا أصيب عالجته الدولة، وإذا استشهد تكفلت الدولة بمن ترك وراءه، وكَرَّمَتْ ذكراه... وهذه كلها متغيرات لا يرفضها الإسلام، بل يقبل بها ويزيد عليها بما يحقق الراحة القصوى لجنوده ومقاتليه.

وكما أن الإسلام اعتبر الجهاد ركناً ثابتاً من أركان الدعوة، اعتبر كذلك المتغيرات التي تحافظ على ركنية الجهاد وثبوته، وتزيده قوة وصلابة، وتؤدي إلى النصر والفلاح من الضرورات التي يجب الأخذ بها، وعدم مراعاتها يُعد خيانة أو تقصيراً يلام مَنْ وراءه.

2-    إعلان الانتماء ليس من الثوابت:

يحرص كثيرٌ ممن يعملون للإسلام على إظهار الانتماء إليه بشكل متميز، مفارقة للمسلمين العاديين الذين ورثوا الدين وراثة، وهذا الإعلان موقف يحمدون

عليه، لقوله تعالى: (ﭼ ﭽ ﭿ )([4]) ، والقول هنا يكون باللسان (الاعتراف الصريح والإعلان المباشر) أو يكون بواقع الحال (أي السمت والمظهر والسلوك)، بَيْدَ أَنَّ إعلان الانتماء بأي طريقة كانت، ليس ثابتاً من ثوابت العمل الإسلامي، بل هو من المتغيرات التي تفرضها الظروف، والتي يجب مراعاتها حفاظاً على الدعوة والعمل الإسلامي.

فعندما يشتد الأذى بالمسلمين والعاملين للإسلام، يُفضل الأخذ بأسلوب الكتمان، ففي الأمم السابقة، وفي حياة الرعيل الأول من المسلمين (جيل الصحابة

– رضوان الله عليهم -) وفي العصور التي تلت عصر الرعيل الأول... كان الكتمان إحدى وسائل المقاومة للبقاء.

ففي قصة فرعون، ومعاداته لموسى (u) كان هناك أحد العاملين للدين يعيش في حاشية صاحب القرار، لكنه يكتم إيمانه. وعدم إعلانه الانتماء لم يمنعه من العمل للدين، بالدفاع عن الرسول، وبوعظ قومه وتحذيرهم – وهو واحد منهم في الظاهر- من مغبة العصيان والمخالفة... وهذا كله عمل من أجل الدين ( ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭿ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ) ([5]).

ولقد كان بعض الصحابة (رضوان الله عليهم) في مكة يكتم إيمانه، بل إن كتمان نُعيم بن مسعود (t) إيمانه – إبان غزوة الخندق – نفع الإسلام والمسلمين([6])، وما زال التاريخ يحمل لنا صوراً وقصصاً عن كتمان الإيمان عندما تشتد الخطوب، ويضعف المسلمون، وتتكالب عليهم قوى الشر، فلا يملكون من حيلة للدفاع عن أنفسهم، والبقاء على قيد الحياة بالحد الأدنى من الالتزام إلا بكتمان الانتماء([7])، وسيظل الكتمان حقيقة ناصعة، وملجأً يلجأ إليه العاملون والمنتمون إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

بَيْدَ أَنَّ هناك نقطة يجب التنبيه عليها، وهي اعتماد كثير من شباب الإسلام – أقصد الذكور منهم – زياً معيناً ليعلنوا به الانتماء للعاملين للإسلام تحت مظلة جماعة ما من جماعات العمل الإسلامي، وهذا شيء جميل، لكن الذي أريد التنبيه عليه، هو أن الإسلام لم يلزم أحداً بهيئة ما في اللباس، بل ترك الأمر للعرف والبيئات، والالتزام بلباس معين على أنه السُّنَّة خطأ كبير، والأمر فيه سعة، والقصر على هيئة معينة حَجْرُ واسعاً ولا يزيد في الحسنات، كما أن عدم التقيد بزي الأقدمين والسابقين من السلف ليس منقصة في الدين، ولا مجلبة للإثم، والأصل في المسلم أن تكون هيئته مألوفة (أي ليس لباسه لباس شهرة)، حسنةً، وسطاً، مع استقامة في السلوك، وسلامة في الاعتقاد، ورحم الله مسلماً عرف عصره واستقامت طريقته.

أما بالنسبة للإناث، فالأصل أن تستر جسدها كله (مع خلاف بين الفقهاء بالنسبة للوجه والكفين) وبالشروط التي تجعل لباسها لا يصف ولا يشف وليس شبيهاً بلباس الرجال([8]). فهذا الحجاب بهذه المواصفات ثابت لا جدال في ثبوتيته، ولكن اختلاف الأزياء، وألوانها، وهيئاتها، وتفصيلاتها، وقصَّاتها، وموضاتها... إلخ ما هنالك، فهي من المتغيرات التي تراعى فيها البيئات، وحاجات المرأة النفسية للتزين ومحبة الجمال، شريطة التقيد بشروط الحجاب السابقة([9]) والتي نلخصها في عبارة واحدة: الستر وعدم الإغواء.

               

([1]) في كل شيء.

([2]) مختصر صحيح مسلم، ج2، ص246، رقم 1840.

([3]) الأنفال: 60.

([4]) فُصِّلَت: 33.

([5]) غافر: 28.  وانظر إن شئت في الآيات 22 – 45 من السورة نفسها.

([6]) ولو أعلن إيمانه، لما قبل الكفار رأيه ومشورته، ولما نجحت مكيدته.

([7]) راجع إن شئت كتاب: الزحف الأحمر للشيخ محمد الغزالي – رحمه الله – وكتاب: محاكم التفتيش بأسبانيا والبرتغال وفرنسا وغيرها للدكتور علي مظهر.

([8]) تراجع الشروط في كتاب الشيخ ناصر الدين الألباني (حجاب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة).

([9]) لمزيد من التفاصيل، ولإثراء الموضوع أكثر تُراجع كُـتُـبِي التالية:

1-     رسائلي إليها.

2-     المسلمة العصرية إلى أين؟

3-     المسلمة المعاصرة التزام ودعوة.

4-     همسات إلى الصحوة الإسلامية.

5-     الصحوة الإسلامية مواقف تستحق المناقشة، لاحتوائها على موضوعات مهمة في هذا الجانب.