أدب وسياسة .. وإنما الناس بالملوك ..

وإنما الناس بالملوك . قف عند هذا من كلام أبي الطيب ، وأعرض عن سائر ما في البيت من عنصرية وعنجهية قومية . فطالما كذب ما قال النقلُ والعقلُ والواقع والتاريخ .

وإنما الناس بالملوك . وقالوا على دين الملوك . ولو قالوا على همة الملوك لكانوا أقرب إلى الصواب.

وقالوا : الملك سوق يحمل إليه ما يروج عنده . فإن راج في سوقه الحق انساق إليه أهل الحق ، وإن راج في سوقه الهزل والهزال تدفق ذلك عليه .

وعلى الرغم من النظرية الخلدونية في الدورة الحضارية لقوة ومنعة الدولة ..يبقى من حق أن نتساءل : كم من ملك أطفأ جمرة ؟!! وكم من ملك أحيا على ضعف أمة ؟!!

وكان الكثير ممن قرأ التاريخ قراءة اعتبار ، يعقد المقارنة بين سابق ولاحق . ويعيد بعض الفضل المتنازع عليه بينهما إلى نصابه .

ويوم لم تصمد بغداد المستعصم في وجه التتار أربعين يوما صمدت " ميافارقين " بعادلها أمامهم سنتين ، وانهارت حلب بعدها ثم دمشق بأيام !! ولعل كثيرا منا يتساءل اليوم عن حق : وما ميافارفين ؟ أي وات إز زيس ميافارقين .. ؟؟؟؟؟؟

ولن أعيد عليكم حكاية " ميافارقين " ، فقد حكيتها لكم من قبل وقد آن الأوان، لنحولها إلى أيقونة ورمز وشاهد للملوك وعليهم !!

وإنما الناس بالملوك ..

وأحاول أن أجمع لنفسي الجغرافيا والتاريخ والحدث لأستبين حقيقة أن الناس بالملوك وإليكم : هل تعلمون أننا حين نكتب عن سيف الدولة ثم عن عماد الدين ونور الدين وصلاح الدين والتصدي للروم ثم للفرنجة وتحرير المدن ثم تحرير بيت المقدس نكتب عن كل هذا وكأننا ننسى أنه كان هناك في بغداد "خليفة " يدعى له على كل المنابر .." خليفة " لا نكاد نذكره ، ولا نعلم من هو إلا أن نرجع ونراجع !!!

أسأل نفسي على سبيل الامتحان : من هم خلفاء بني العباس الذين عاصروا الغزو الفرنجي ، وما كان دورهم في التصدي له ؟ ويبدو أنني لست قادرا على جواب ..!!

كل الذي علق في ذهني من التاريخ أن وفدا من أهل الشام الكبير وصلوا بغداد يستنهضون الخليفة ، ويطالبونه بالدفاع عن المسلمين ، وأن استقبالهم في بغداد لم يكن حسنا ، لعلي أعجب ولعلكم تعجبون ..

أن نحفظ أسماء الأمراء والقادة وأن لا نعرف أسماء الخلفاء تلك مشكلة . قال الرافعي لطه حسين يوما : شمعة أضاءت لشمس الظهر ..

وهل كان نور الدين الشهيد والناصر صلاح الدين إلا شموع في حضرة خليفة موهوم أو مظنون ونحن اليوم نتمجد بسيف الدولة وبنور الدين وصلاح الدين ثم بفلان وفلان .. ثم ننسى ، لنعيد مقولة أبي الطيب " وإنما الناس بالملوك "

ويبقى فعل الملوك : إقبال عندما يطيب الإقدام ، وإحجام عندما يقضي العقل بالإحجام . وأخذ راية يوم مؤتة خالد فطواها . وكان علوها وصونها في طيها . فرق كبير عند العرب بين الملوك والوعول تقارع الصخرة بقرونها . ويتمثل بها الأعشى : فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل .

الرأس في الأمة أو في الشعب كالرأس والقلب في الجسد . الرأس يصنع فكرا والقلب يمنح عزيمة ودفئا ..وما عدا ذلك فجند طاعة كما كانوا يقولون .

كل الذي قالوه عن دور الجماهير صحيح ؛ إلا في قولهم الجماهير تصنع قادتها فهو مجانب للصواب . والحق الأحق أن يتبع هو أن القائد هو الذي يصنع وهو الذي يرفع وهو الذي يجمع وهو الذي يقود ويسود ..

وصدق أبو الطيب " وإنما الناس بالملوك "

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 861