الإسلام والحضارة

[مختصراً من مقدمة مجلة حضارة الإسلام، العدد الرابع: ربيع الثاني 1380هـ = تشرين الأول 1960م. بقلم: الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله]

لم تكن حالة العالم في التردي الأخلاقي واتساع نطاق الحروب والشرور، يوم بُعث محمّد صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام، أسوأ مما عليه العالم اليوم، من فتن تُقضّ مضاجع الآمنين، وفساد اجتماعي وأخلاقي ينفي الطمأنينة والسعادة النفسية عن مئات ملايين البشر من المتمدنين، ومن جوع ومرض وتخلّف اجتماعي يعيش فيه مئات الملايين من الضعفاء والغافلين.

ولكن الإسلام بعد بضعة عشر عاماً من قيامه استطاع أن يحقق المعجزة الكبرى التي لم يقع مثلها في التاريخ، تلك هي إحداث ذلك الانقلاب الشامل في عقائد الناس وأخلاقهم وأوضاعهم الاجتماعية المتردية، وقيام تلك الحضارة التي لا يزال التاريخ يجري وراء أخبارها ملهوثاً مبهوراً من عظمتها وروعتها الإنسانية النبيلة الكريمة.

وفي غمار هذا الظلام الشامل الذي تعيشه البشرية اليوم، في إطار من النور المصطنع، والتقدم العلمي الذي استغله صانعو الحروب ليكون أداة خراب ودمار للقيم الإنسانية ومُثُلها العليا واطمئنانها الروحي، ينبغي أن نتساءل: لماذا لا يتقدم الإسلام اليوم ليقوم بدوره العظيم في إنقاذ الإنسانية من شقائها الحاضر الأسود، ودمارها الشامل المرتقب؟.

قد يكون ذلك ممكناً، بل ليس من سبيل للإنقاذ سواه، لولا عائقان اثنان:

أولهما: المفهوم المؤلم الخاطئ الذي انتهى إليه الإسلام كعقيدة ونظام.

ثانيهما: الواقع المتخلف الذي تعيش فيه شعوب الإسلام ودُوَله كمجتمعات ودول ذات قيمة محدودة بين المجتمعات والدول التي تحمل لواء حضارة اليوم.

أ- أما مفهوم الإسلام فإنه، بما تراكم عليه من غبار القرون التي خطاها، وأوهام الشعوب التي اعتنقته، ومؤامرات الخصوم الذين ما يزالون يناصبونه العداء، لم يعُد له ذلك المفهوم الإعجازي الذي يُنشئ الحضارات، ويبدّد عن المجتمعات الإنسانية سحب الظلمات.

وللإسلام اليوم مفهومه "الرسمي" الذي يتظاهر به أو يدّعيه بعض المتسلطين، على أنه خطاب يمدح فيه الإسلام، وصلاة تحشد لها الجنود والصحف والإذاعات، وصيام تُمَدُّ فيه الموائد للكبراء والمتخمين والمفطرين. ومن وراء ذلك منكرات يتندى لها الجبين، وظلم اجتماعي تموت فيه الملايين جوعاً وبؤساً، من حيث تنفق فيه الملايين عربدةً ومجوناً!.

أما مفهوم الإسلام الذي جاء به محمّد صلى الله عليه وسلم وأقام به حضارته الخالدة، فهذا ما لم يعُد معروفاً إلا عند أفراد متناثرين هنا وهناك، إن كانوا يتكاثرون يوماً بعد يوم، فإنهم الآن أبعد وأضعف ما يكونون عن تقدم الركب لإنشاء الحضارة المرتقبة المنقذة.

ب- وأما الواقع الذي تعيش فيه شعوب الإسلام ودوله، فلئن كان آخذاً في نفض غبار الماضي، متقدماً نحو واقع أفضل، وحياة أكمل، وفجر مشرق بالنور والأمل، فإن دنيا الأقوياء الأشقياء، لا تزال تحفل بالكيد والدس ووضع العقبات، حتى لا نتسلم من أيديهم اللواء، يفضلون أن يموتوا ونموت نحن معهم، على أن نعيش ويعيشوا بنا. ولن يتم لهم ما يريدون، لأن إرادة الله في إنقاذ البشرية أقوى من إرادتهم في تهديمها ودمارها.

إن لتاريخ الحضارات وقيامها وسقوطها سنناً لا تتخلف، وأسباباً لا تضطرب، ومن سنن الله أن يمكّن لعباده الصالحين، ويأخذ المفسدين بعذاب إن لم يكن ناراً تحرق، أو صاعقة تدمّر، فإنه انهيار يعفي الآثار، وعمى للبصائر يهدم الطريف والتالد من الفَخار، ويلحق بالأحياء منهم والموتى وصمة الهوان والعار.

(ولقد كتبنا في الزّبُور مِن بعد الذكر أنّ الأرضَ يَرثُها عباديَ الصالحون).

وسوم: العدد 862