الضمانات المانعة من استبداد الحاكم (5)

حسن اختيار الحاكم وإدراك الأمة ما لها وما عليها

ومن ضمانات عدم الاستبداد: حسن اختيار الحاكم؛ فالأمة مأمورة بحسن اختيار حكامها، وإذا أهملت الأمة هذه الشروط، فقد خانت الأمانة. وتلك إحدى أمارات الساعة، وفي الحديث:«إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "إِذَا أُسْنِدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ[1]". ومن ثم فقد ذكر الفقهاء شروطاً يجب توافرها في الرئيس الحاكم، ومن أهم هذه الشروط:

الإسلام، إذ الدولة الإسلامية -حتى وإن كانت دولة قطرية- دولة صاحبة رسالة. أن يكون مؤمنا بالفكرة الإسلامية، وهذا شرط يمكن الاقتراب منه والبعد عنه بحسب حال كل دولة. الذكورة، وفي الدولة القطرية خلاف عند بعض المعاصرين ليس هذا مجال ذكره. العقل، إذ العقل شرط التكليف. البلوغ، فإذا كان الصبي لا يحسن تدبير أمر نفسه؛ فكيف بشؤون دولة؟! ألا يكون طاعنا في السنّ، فإن قلّ عن الثلاثين فبقليل، وإن جاوز الستين فبقليل، وقد يفوق من جاوز السبعين من لم يجاوزها. العدالة، ونعني بها ( أن يكون صادق اللهجة ظاهر الأمانة، عفيفا عن المحارم، متوقيا المآثم...)[2] ، وهو ما يعبر عنه الآن بحسن السير والسلوك. الكفاءة، وتعني شجاعة الرأي، وقوة البدن، ورجاحة العقل. أن يكون سليم الحواس  والأعضاء، تلك التي تؤهله للقيام بالعمل المرشح له. أن تكون له قاعدة شعبية تقتنع به قائدا، وتقدمه للأمة. أن يكون ملما بمشاكل الأمة، مقدرا للظرف الراهن الذي يعيشه الشعب. أن يكون معايشا لنكبات الأمة في عقودها الأخيرة، فلا يعقل أن يهبط علينا رئيس من الخارج، لم يعش مشاكل الشعب وآلامه. أن يكون ذا برنامج واضح، على أن يقوم هذا البرنامج على أسس علمية وواقعية. أن يكون تاريخه متناسقا مع البرنامج الذي يقدمه، فلا يعقل أن يأتي دكتاتور سابق فيقدم برنامجا عن الشورى أو الديمقراطية فنصدقه، أو يعدنا شيوعي بحكم إسلامي فندعمه. أن يكون على قدر عال من الثقافة، مطلعا على تطورات العلوم والتكنولوجيا. أن يكون ذكاؤه وسطا، ليس بالغبي الأحمق، ولا الذكي المفرط، إذ يكفي أن يكون على قدر عال من الذكاء، فغباء السابقين دمرنا[3]. ألا يقدم على الترشح من تلقاء نفسه، وإنما تزكيه أعماله، ويقدمه عطاؤه، ويرفعه تاريخه؛ وفي الحديث: «إِنَّا لاَ نُوَلِّي هَذَا مَنْ سَأَلَهُ، وَلاَ مَنْ حَرَصَ عَلَيْهِ[4] . لا بد إذن من حسن اختيار الحاكم، لأنه هو الذي يقود الأمة، فإن أحسنا الاختيار أحسن الحاكم القيادة، وإن أساءنا الاختيار كانت القيادة كما قال القائل: كبهيمة عمياء قاد زمامها أعمى                على عوج الطريق الجائر

إدراك الأمة ما لها من حقوق، وما عليها من واجبات:

ومن ضمانات عدم الاستبداد: إدراك الأمة ما لها من حقوق، وما عليها من واجبات، وهذا يترتب عليه أن ما تتحصل عليه الأمة من حقوق ليست منة من حاكم، ولا هبة تستوجب المديح والثناء، وإنما هو حق لها وواجب عليه، والحاكم كما يطالب بحقوقه من سمع وطاعة ونصرة واحترام وتقدير... ينبغي عليه أن يقدم للأمة ما لها من واجبات.

إن الشريعة الإسلامية لم تأت بتفصيلات تحدد واجبات رئيس الدولة -عظمى كانت أم قطرية-، لكن الفقهاء نجحوا في تحديد واجبات الحاكم من خلال أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله، وتطبيقات الخلفاء الراشدين. وقد أدلى فقهاء المذاهب كل بدلوه في تحديد هذه الواجبات، لكن الماوردي الفقيه الشافعي المعروف والإمام الأسبق في تقرير الأحكام السلطانية كان له السبق في تقرير واجبات الحاكم، بل يكاد يكون تعريف الماوردي للخلافة بقوله: (خلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا[5]) هو تحديد لواجبات الحاكم.

حفظ الدين وسياسة دنيا الناس به يجمع واجبات الحاكم:

        وهذه الواجبات رغم كثرتها يمكن حصرها في واجبين اثنين كما قال عبد القادر عودة:

1ـ إقامة الإسلام.

2ـ إدارة شؤون الدولة في حدود الإسلام[6].

 وصاغ الغزالي هذا بقوله: ووظيفة الحاكم حراسة الإيمان في القلوب، وحراسة الفضائل في المجتمع، وحراسة المصالح العامة في حياة الأمة[7].

ويجدر بنا هنا أن نشير إلى مجمل واجبات الدولة، وأحسب أن الماوردي جمع فيما ذكر كل شاردة وواردة، وها هي واجبات الحاكم كما ذكر:

حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة. تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تعم النصفة. حماية البيضة والذب عن الحريم؛ ليتصرف الناس في المعايش، وينتشروا في الأسفار آمنين. تنفيذ العقوبات؛ لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك. تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة حتى لا تظفر الأعداء بغرة ينتهكون فيها محرما. جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة. جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصا واجتهادا. تقدير العطايا من غير سرف ولا تقتير، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير. استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوض إليهم من الأعمال. أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور، وتصفح الأحوال؛ لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة[8]. والحاكم في نظر الإسلام مطالب بتحقيق مصالح الشعب، لأن الله سبحانه ما شرع دينه وأنزل كتبه وأرسل رسله إلا لتحقيق مصالح البشر، قال عز الدين بن عبد السلام:  فرتب – أي الله سبحانه وتعالى- مصالح الدارين على طاعته واجتناب معصيته [9]. ولهذا أقر الفقهاء والأصوليون أن (تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة)،ومن ثم فإن للشعب على حاكمه ما يلي: تحقيق المساواة بين المواطنين.  ممارسة الشورى مع المتخصصين. احترام حقوق الإنسان. ضمان التعليم المناسب لكل أفراد المجتمع. العمل على الإبداع والتطوير في كل الميادين.  تحقيق الأمن الداخلي والسلام الخارجي. إعطاء كل ذي حق حقه ومطالبته الجميع بأداء الواجبات. تثبيت القيم والمبادئ والأخلاق الفاضلة داخل المجتمع. إيجاد الرعاية الصحية الكاملة لكل أفراد المجتمع. محاسبة المفسدين ومعاقبة المجرمين. القبول بالتعددية داخل المجتمع، سواء  العقدية منها أو المذهبية أو الفكرية. تحقيق حياة كريمة لكل الناس.

والأمة التي تعرف ما لها وما عليها جديرة بأن توقف استبداد أي حاكم، وظلم أي ظالم، إذ الحاكم سيفكر مرات ومرات قبل أن يستبد بأمة تعرف ما لها وما عليها.

إننا بحاجة إلى أمة تسمع ولا تنسى، وتحاسب ولا تخشى، وتطالب فلا تتردد، ذكر الغزالي في الإحياء: أن معاوية رضي الله عنه حبس العطاء فقام إليه أبو مسلم الخولاني فقال له يا معاوية إنه ليس من كدك ولا من كد أبيك ولا من كد أمك...[10].

إن أبا مسلم أدرك جيدا أن عطاء الحاكم ليس منة ولا هبة، ولهذا غلظ له القول، لأنه قصر في حقوق الأمة.

        وما كان من أبي مسلم تكرر من آحاد الرعية وأفراد الشعب، ذكر أبو يعلى في مسنده عن أبي قبيل قال: خطبنا معاوية في يوم جمعة فقال: إنما المال مالنا والفيء فيئنا، من شئنا أعطينا، ومن شئنا منعنا، فلم يرد عليه أحد، فلما كانت الجمعة الثانية، قال مثل مقالته، فلم يرد عليه أحد، فلما كانت الجمعة الثالثة، قال مثل مقالته، فقام إليه رجل ممن شهد المسجد فقال: كلا، بل المال مالنا والفيء فيئنا، من حال بيننا وبينه حاكمناه بأسيافنا...[11].

        هذه هي الرعية التي لا تنام عن حقوقها.

المراجع

[1]  رواه البخاري في الرقاق (6496) عن أبي هريرة.

[2]الأحكام السلطانية/ الماوردي/ ص 112.

[3]  وقد أشار إلى ذلك ابن خلدون إلى التوسط في الذكاء، واستشهد بصنيع الفاروق مع زياد بن أبي سفيان حين عزله، وقال: لم أعزلك لواحدة منهما، ولكني كرهت أن أحمل فضل عقلك على الناس...... تاريخ ابن خلدون/ج1 /ص 236.

[4]  رواه البخاري في الأحكام (7149) عن أبي موسى.

[5] الأحكام السلطانية/ الماوردي/ ص 15.

[6] الإسلام وأوضاعنا السياسية/ عبد القادر عودة/ ص 247.

[7] الإسلام والاستبداد السياسي/ محمد الغزالي / ط نهضة مصر ط  أولى 1997م/ ص 34.

[8]  الأحكام السلطانية/ الماوردي/ ص 40، 41.

[9]  قواعد الأحكام في مصالح الأنام/ العز بن عبد السلام/ط مكتبة الكليات الأزهرية – القاهرة ط 1991م.

[10]  إحياء علوم الدين/ الغزالي/ دار المعرفة – بيروت (2/ 344).

[11] رواه أبو يعلى في مسنده (13/ 374)، وقال محققو المسند: إسناده صحيح.

وسوم: العدد 866