بين المنهج الإلهي الكامل والنفس البشرية الضعيفة

[ مختصراً من مقدّمة تفسير سورة الممتحنة – في ظلال القرآن – سيد قطب ]

هذه السورة حلقة في سلسلة التربية الإيمانية والتنظيم الاجتماعي من ذلك المنهج الإلهي للجماعة المسلمة التي اختارها الله لتحقيق منهجه الذي ارتضاه للحياة الإنسانية، في صورة واقعية عملية، تبلُغ إليه البشرية أحياناً، وتقصر عنه أحياناً، ولكنها تبقى معلقة دائماً بمحاولة بلوغه؛ وتبقى أمامها صورة واقعية منه، تحققت يوماً في هذه الأرض.

وقد اقتضى هذا إعداداً طويلاً في مراحل. وكانت الأحداث التي تقع في محيط هذه الجماعة، أو تتعلق بها، مادة من مواد هذا الإعداد مقدرةً في علم الله، تقوم عليها مادة أخرى هي التفسير والتوضيح والتعقيب والتوجيه.

وفي مُضْطرَب الأحداث، وفي تيار الحياة المتدفق، تمت عملية بناء النفوس المختارة لتحقيق ذلك المنهج الإلهي في الأرض. فلم تكن هناك عزلة إلا العزلة بالتصور الإيماني الجديد، وعدم خلطه بأية رقع غريبة عنه في أثناء التكوين النفسي لهذه الجماعة. وكانت التربية المستمرة متجهة دائماً إلى إنشاء هذا التصور الإيماني الخاص المميز، المنعزل بحقيقته وطبيعته عن التصورات السائدة في العالم كله يومذاك. أما الناس الذين يُنشّأ هذا التصور المتميز في نفوسهم فلم يكونوا بمعزل عن واقع الحياة، بل كانوا يُصهَرون في بوتقة الحوادث يوماً بعد يوم، ويعاد صهرهم في الأمر الواحد مرات كثيرة، وتحت مؤثرات متنوعة؛ لأن الله الذي خلق هذه النفوس يعلم أنها ليست كلها مما يتأثر ويستجيب ويتكيف ويستقر على ما تكيف به منذ اللمسة الأولى. ويعلم أن رواسب الماضي، وجواذب الميول الطبيعية، والضعف البشري، وملامسات الواقع، وتحكُّم الإلف والعادة، كلها قد تكون معوقاتٍ قويةً تغلب عوامل التربية والتوجيه مرة بعد مرة. وتحتاج في مقاومتها إلى التذكير المتكرر، والصهر المتوالي.. فكانت الأحداث تتوالى كما هي منسوقة في قدر الله، وتتوالى الموعظة بها، والتحذير على ضوئها، والتوجيهُ بهدْيِها، مرةً بعد مرة.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم في يقظة دائمة وإلهام بصير، بالتقاط الأحداث والوقائع والمناسبات في كل فرصة، واستخدامها بحكمة بالغة في بناء هذه النفوس. والوحي والإلهام يؤيدانه ويسددانه صلى الله عليه وسلم حتى تصنع تلك الجماعة المختارة على عين الله.

وسوم: العدد 868