الكرنتينة- الحجر الصحي عند العرب..

الطاعون اسم شامل لأوبئة كثيرة كانت تصيب أهل القرى والمدن في الشرق الأوسط وهي من الأمراض السارية التي تنتقل بالعدوى فتفتك بالسكان فتكًا ذريعًا. وكان أول طاعون عرفه العرب هو طاعون عمواس الذي أصاب الجيش الإسلامي الفاتح في سنة 18 هجرية/639 ميلادية في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقد توفي في هذا الطاعون أبو عبيدة بن الجراح ويزيد بن أبي سفيان ومعاذ بن جبل وغيرهم من كبار قادة المسلمين.1

خلال العصر الأموي كان نحو 20 طاعونًا بمعدل طاعون كل أربع سنوات ونصف. كان معدل الوفيات عاليًا ما أدى إلى تغييرات ديمغرافية في بلاد الشام. وقد اتخذت السلطات الإسلامية إجراءات صارمة للحد من تفشي هذا المرض المعدي، بحيث منعت الناس من الخروج من المنطقة الموبوءة، وحظرت الدخول إليها وقد تجلى ذلك في الحديث الذي أورده البخاري "إذا سمعتم به(بالطاعون) بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه".2

 كانت مدن الشام مركزًا لانتشار الطاعون بسبب الكثافة السكانية والرطوبة العالية، لذا اعتاد خلفاء بني أمية مغادرة دمشق في فصل الشتاء إلى قصور بنوها على طرف الصحراء حيث الهواء الصحي النقي والجاف وهربًا من الطواعين. من هذه القصور اثنين في رصافة هشام بن عبد الملك  في البادية السورية، 3 وقصر هشام بن عبد الملك في أريحا،  قصر المشتى بالقرب من عمان في شرق الأردن الذي بناه الوليد بن يزيد.

وكان إذا ما أراد الخليفة الأموي القضاء على خصم سياسي، أو ثائر أرسله إلى قرى الشام فتفتك به طواعينها، فمثلا  بعد القضاء على حركة حجر بن عدي الكندي في الكوفة سنة 51 هجرية/ 671 ميلادية نصح لفيف من قادة أهل الشام معاوية بن أبي سفيان بأن يفرق الثوار في قرى الشام فيكفيكم طواعينها.4

في العهد العثماني أطلق علىى مكان الحجر الصحي اسم تحفظخانه. أي المكان الذي يجري فيه احتجاز الوافدين إلى البلد والتحفظ عليهم حتى يتم التأكد من شفائهم من الوباء.5

 في عهد ابراهيم باشا أنشئت الكرنتينة في بيروت، والكلمة إيطالية تعني أربعين يومًا، ودخلت إلى الإنكليزية Quarantine بمعنى الحجر الصحي. وكان قناصل الدول الأوروبية مثل فرنسا وبريطانيا يشرفون بأنفسهم على رعايا بلادهم الوافدين إلى الشرق.

في سنة 1835 أنشأ ابراهيم باشا في يافا :كرنتينة يونانية وأخرى أرمنية، وقد بقيت الكرنتينة تعمل في يافا في العهد العثماني وكان لها طبيب خاص وهو الدكتور ليمك سعد. في سنة 1920 كانت كرنتينة في حيفا وأخرى في القنطرة على الحدود المصرية.

6 في سنة 1265 هجرية/1848 ميلادية قام السلطان العثماني عبد المجيد خان الأول بن محمود بإنشاء تحفظخانه في مدينة الخليل. وهي من مآثره العظيمة. وهي حجر صحي محاط بسور عال وله باب واحد وبداخله مبان ومرافق صحية لمعالجة المرضى. فوق الباب في السور كتابة باللغة العثمانية تشير إلى ما أنشأه السلطان العثماني المذكور أعلاه.كان الحجر الصحي وسيلة ناجعة في الحد من انتشار الأمراض السارية(المعدية) بجميع أنواعها، وفيما يلي ترجمة للنقش الموجود في الخليل:

"من آثار سلطان البلاد عبد المجيد خان اللطيفة والمناسبة التحفظخانة التي أنشأها في التاريخ المذكور وللتحفظخانه باب واحد زينه باسمه سلطان العصر ومحيى العدل 1265" (هجرية) الموافق للسنة الميلادية 1848 .

clip_image002_06b0b.png

في سنة 1902 انتشر وباء الكوليرا في خان يونس، واللد ويافا ما أدى إلى وفاة عدد من الأهالي. في تلك السنة سارعت السلطات الصحية إلى إنشاء كرنتينة في الناصرة لمنع انتشار الكوليرا فيها، وفرضت حصارًا على المدينة لعزلها عن  باقي المدن والقرى، ولكن السلطات الصحية فشلت في عزل المدينة لأسباب اقتصادية بحتة.7

في سنة 1947 انتشر مرض الكوليرا في مصر والعراق، فاتخذت حكومة الانتداب في فلسطين تدابير للوقاية من وباء الكوليرا شملت حصر دخول البلاد بمراكز محدودة وحضوع القادمين للحجر الصحي.8

في شهر كانون الأول سنة 2019 انتشر وباء الكورونا في ولاية فاهان في الصين، ثم انتقل  إلى كوريا الجنوبية وايطاليا وغيرها من دول أوروبا وأمريكا.وقد أودى حتى الآن بحياة 5800  نسمة، أما في بلادنا فتوجد 200 إصابة والخوف من انتشاره بالعدوى لأنه من الأمراض السارية. وقد فرض الحجر الصحي على القادمين من الخارج، وعطلت وزارة الصحة التعليم في المدارس ومنع الأئمة صلاة الجمعة في المساجد. والناس يخزنون الأغذية ليوم عصيب..!

قالوا في المثل: درهم وقاية خير من قنطار علاج

ملاحظات:

1.الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ط2، دار المعارف بمصر، 1962، ج 4، ص 60-61

2. صحيح البخاري، حديث رقم 5730، 5735

2. أبو الفداء، المختصر في تاريخ البشر ج1، ص 284

4. البلاذري، أنساب الأشراف، ج5، ص 265

5. يونس عمرو، "الرقمان التركيان العثمانيان للكرنتية في الخليل" مجلة جامعة القدس المفتوحة للأبحاث والدراسات، العدد الأول، تشرين الأول 2002، ص 12

6. نسيم ليفي، فصول في تاريخ الطب(بالعبرية)، ص  513-515، ص 430-431، 436،  379   

7. نسيم ليفي، مصدر سبق ذكره، ص 515

8.صحيفة الدفاع 30 كانون الأول 1937، ص4

وسوم: العدد 868