الظاهرة الجهاديّة نماذج في القراءة والتحليل

تنشغل مراكز أبحاث كثيرة ومفكرون عديدون في فهم الظاهرة الجهادية وأسسها، وذلك في أُطُرٍ متعدّدة تسعى لفهم مفرزاتها وإبراز الاستنادات النصّيّة التي تنطلق منها، إضافة إلى تطوّراتها والسياقات التي تنتشر فيها، مما يؤكّد أن الظاهرة الجهاديّة ظاهرة مركّبة بطبيعة الحال. 

إلا أن نسبةً كبيرة من الدراسات المعاصرة تُغلّب دورَ النصّ الدينيّ في نشوء الظاهرة، وتبتُّ من خلال ذلك بحزمة من المسلّمات الأساسيّة في الوعي الغربيّ، كرفض المسلمين للديمقراطيّة؛ وكون "الإرهاب" منتَجًا دينيًّا نابعًا من الإسلام، وكون نصوصه الباعث الأوّل في ظهور "التنظيمات الجهاديّة" سواءً في زمن "ثورات الربيع العربي" أو ما قبله. 

بالتوازي مع وفرة الإصدارات الأجنبية والعربية حول تفسير ظاهرة النمط الجهاديّ الأخير –أي تنظيم الدولة- يلاحَظُ اعتماد أغلب هذه القراءات على تناول التنظيم في إطارٍ عاطفي –مع/ضد- إضافة إلى وجود أنماط أخرى تتركّز حول البنى الأمنيّة وهيكليّات التنظيم، إضافة إلى الأنماط المركّبة في تفكيك الظاهرة. 

الأنماط العاطفيّة 

تتمحور القراءة العاطفيّة حول النصوص دون النظر إلى السياق الذي تظهر فيه التنظيمات "الجهاديّة" وتنحصر مقولات الأشخاص المقتنعين والمنظّرين لهذه المقاربة بمحوريّة النصّ في ظهور ما يسمّى بـ العنف الجهاديّ، والذي نشأ مع بداية التنظيمات العنفيّة -جماعة التكفير والهجرة- في الستينات؛ مرورًا بمراحل الحرب السوفييتية الأفغانيّة؛ وانتهاءً بعولمة تنظيم القاعدة وهجماته الشهيرة على الولايات المتحدة عام 2001، وما تلاها من هجمات في لندن ومدريد، وكذلك الهجمات الفرديّة التي تبنّاها تنظيم الدولة في مناطق سيطرته الجغرافيّة وخارجها. 

ويستغل كثيرون –يمينيّون غربيّون  وكتّاب عرب  - هذه "المُسلّمة" للتدليل على أن المشكلة وإن بدتْ في النصوص الدينيّة الإسلاميّة إلا أنها ليست منحصرة فيها، بل إنّ المشكلة هي في الإسلام ذاته، رغم وجود نصوص متعدّدة في الكتاب المقدّس في شقّيه -العهد القديم  والعهد الجديد - تمجّد القتل والإبادة وتأمر بالغدر والخيانة. 

مقابل هذه الرؤية، تظهر مقاربة المدافِع عن الدين باعتبار النصّ حمّال أوجُهٍ، وأنّ التأويلات السابقة ليست بالضرورة حتميّة وقطعيّة، وأن الأولى فهم الآيات والنصوص التي تتحدث عن القتال في القرآن والسنّة في إطار المقاومة والدفاع، واعتماد حجّة سوء الفهمِ دليلاً أوليًّا في هذا الإطار، حيث يستغلّ شرعيّو التنظيمات الجهاديّة جهل الشباب بالعلوم الشرعيّة ليجتذبوهم إلى إيديولوجيّاتهم من خلال التأويلات التي توجب القتال وتبيح الدماء. 

قواعد المقاربة العاطفيّة وسلبيّاتها

يعتمد النمط العاطفي على رميِ "السلفيّة" -أحيانًا- و"الدين" كلّه -أحيانا أخرى- بالعنف والتطرّف، وهذا خلطٌ ينبغي تجاوزه، فقضيّة تعريف السلفيّة ذاتها محلّ اختلافٍ، فقد باتت السلفية مقسّمة بين التوجّهات العلمية والاقتداء بأشكال معيّنة من السنّة النبويّة والسلوكيّات الجسديّة والتعبّدية، كما ظهرت سلفيّات تعليميّة وعقدية. 

ولا يمكن حصر التطرّف بالسلفيّة كما أنه لا يمكن إحالة العنف الجهاديّ إلى التطرف، كما أنّ تناول الأديان بحدّ ذاتها بهذا القدر من السطحية والاختزال لا يمنح الرؤية الفكريّة لقضيّة العنف جَلاءً ووضوحًا، وإنما يزيدها إرباكًا، حيث إن العنف الذي ظهر عن دولٍ وأنظمةٍ لا دينيّةٍ يفوق العنف الذي أنتجته جميع الأديان في التاريخ أضعافًا مضاعفة، ولعل تجربة القمع والديكتاتورية في الاتحاد السوفييتي أوضح مثال يمكن ذكره في هذا السياق. 

بالرغم من أنّه لا يمكن إنكار أن النصّ الدينيّ -بمختلف أنواعه- يمنحُ الجهاديّ المندفع نحو الموت مستَنَدًا قويًّا للتبريرِ، وحجّةً داحضةً التسويغ، ونوعًا من الشعور بالاطمئنان النفسيّ، إلا أنّه لا يمكن التدليل على كون النصوص بحدّ ذاتها هي الدافع الحصريّ للإقدام نحو العنف. 

ويجدر ههنا الإشارة إلى أن السلبيّة الأولى لهذه المقاربة خلطُها بين قضيّة الإيمان بسموّ النصّ وكونهِ وحيًا وبين السياقات التي أنتجت التأويل الدينيّ من ناحيَة وارتباط ذلك بالقناعة الذاتيّة، ثمّ دمج ذلك كله في الاختزال الشهير: "النصّ هو السبب المنتِج لسلوك العنف والشعور بضرورته" 

إنّ الإيمان بقدسيّة النصّ القرآني لا تقتضي -بالضرورة- إنتاجًا للعنف، خاصّة مع وجود تاريخٍ وحاضرٍ مديد على نطاقات واسعة من الجغرافيا في العالم دون تسجيل حوادث عنفٍ كالتي حدثت في الهجمات العنيفة في مدريد عام 2004، وتفجيرات لندن عام 2005، وهجوم بروكسل عام 2014، والهجوم على مقر جريدة شارلي إيبدو في باريس عام 2015، وغيرها من الهجمات العنيفة التي راح ضحيتها من المسلمين أضعافًا لا تقارن بضحايا الدول الأوروبية.  

كما أن إحدى أبرز سلبيّات المقاربة الدفاعيّة –كما يرى د. عزمي بشارة- أنها تضع نفسها في مسار التنافس مع التنظيمات في سبيل كسب شرعيّة التأويل والطهرانيّة في إظهار الإسلام الحقيقيّ ، فلم تقدّم هذه الدفاعاتُ -في حقيقة الأمر- تفكيكًا للمقاربات الجهاديّة، بل كرّرت المقولات الإنشائية والخطابيّة عن الإسلام باعتباره دين سلامٍ.

من ناحية أخرى، فإنّ هذه المقاربات لا تقدّم -أيضًا- اشتباكًا معرفيًّا وثقافيًّا مع سياقات ظهور الخطاب الجهاديّ العنيف، ولا توضّح كيفيّة توالُده وتلاقحه وتطوّره، كما أنّها تمنح الأطراف المسهِمةَ في تهميش الجهاديين مُتنَفَّسًا لإلقاء اللوم على قضايا التأويل وضرورة صياغة المناهج، وحرفِ المجهر عن رصد الواقع الاجتماعي والنفسيّ والسياسيّ المؤثّر في تفاعل الظاهرة الجهاديّة وأشخاصها فيما بينهم. 

مقاربات الرصد المعلوماتي 

بموازاة هذه المقاربة الشهيرة نرى مقاربة أكثر تبسيطًا، وهي مقاربة المراكز البحثيّة المتصلة بمراكز القرار والتي تسير على منوال المقاربات الأمنيّة، حيث تعتمد على التوصيف وإظهار الروابط بين الخلايا والأفراد ووظائف المسؤولين في التنظيمات، وقلّما تُعنى بالبحث في النصّ الدينيّ، إذ ينصبُّ اهتمامها على المعلومات المفيدة في تفكيك هذه الشبكات أمنيًّا، والوصول إلى فهم أوضحَ للبنى التنظيميّة والهياكل الإدارية التي تفرزها. 

لا تغيب في هذا السياق القراءات المهمة التي أنتجتها مؤسسات بحثيّة عريقة كمؤسسة راند على سبيل المثال، كما في دراساتها حول تنظيم القاعدة في شرق إفريقيا ودراساتها عن بنية المؤسسات الماليّة التي أنشأها تنظيم الدولة في العراق وسوريّة، ولا يمكن إنكار أثرها في إيضاح جوانبَ مهمّة في فهم التنظيم "أمنيًّا" و"مؤسساتيًّا"، إلا أنّها –بطبيعة الحال- لا تشتبك مع عمق الظاهرة الجهاديّة ولا تبحث عن الدوافع نحو التطرّف العنيف والسلوك الدمويّ ودواعي تطوّره لدى هذه التنظيمات. 

مقاربات التفكيك والبحث في الجذور

يظهر جليًّا في العقود الثلاث الأخيرة بروز تحوّلات واضحة في سلوكيّات التنظيمات الجهاديّة توضّح عاملين أساسيين من عوامل التلاقح أولهما اندماج حاملي الفكر الوسطيّ والمتطرف في الساحة الأفغانية، ثم انتشار الفكرة الجهاديّة المطوّرة مع تطبيقاتٍ عديدة في الجزائر والشيشان، ثم تشكيل تنظيم القاعدة الذي بات مظلة تجمع جماعاتٍ شتّى من الأفكار والأشخاص، ثم التحوّل إلى الشكل العراقيّ من الجهاد والذي تمثّل بالبحث عن الدولة والقتال في سبيلها. 

جرى الانتقال –إذن- بشكل جليّ في مرحلتين من مراحل تاريخ السلفية الجهادية وتنظيماتها: 

• مرحلة التأسيس التي كان مخبرًا عمليًّا لاندماج تيارات مختلفة من مقاتلي الجهاديين. 

• مرحلة المراجعات التي أنتجت الغلوّ العنيف من قِبَل تنظيم "القاعدة" ذي العلامة الجهادية المعولمة، ضمن متتالية التشظّي عن الجماعة المتطرفة إلى جماعة أشدّ تطرفًا منها. فمن رحم الوهابية التقليدية برزت جماعة جهيمان، ومن جماعة سلفيّة الأفغان العرب برز تنظيم القاعدة، ومنها برز تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام.

تبرز في سياق فهم هذه التحوّلات قراءات عديدة لمفكّرين وأنثروبولوجيّين مختلفين، أمثال سكوت اتران في كتابه الحديث إلى العدو، وأوليفييه روا في كتب عديدة له أبرزها الجهاد والموت، وإيمانويل تود في كتابه "من هو شارلي"  

يحاول أوليفييه روا -على سبيل المثال- فصل قضيّة العنف الجهاديّ المعاصر عن السياق التاريخيّ للإسلام وربطها بالحداثة باعتباره –أي العنف- أحد أبرز مفرزاتها حيث تطغى العدميّة على مختلف السياقات المعاصرة وتظهر في سياقها الإسلاميّ "بالسّعي المتعمّد إلى الموت" ، وعلى هذا الأساس يستمرّ كتاب "الجهاد والموت". 

في إطار تقديم مقاربة مختلفة عن أثر النصّ لفهم ظاهرة "عنف الجهاديين" يستقرئ أوليفييه ملفّات عديدة لمنفّذي الهجمات الدمويّة في أوروبّا وأماكن أخرى من العالم، ليصل إلى عدة أطرٍ أساسيّة في تكوّن دوافع الانغماس في هذه الهجمات، فيقوم أوَّلاً بتحديد نطاق تاريخي للهجمات الانتحاريّة، مذكِّرًا بأنّ أول استعمال انتحاريّ للحزام الناسف جاء من جماعة نمور التاميل في سيرلانكا في ثمانينات القرن الماضي وليس من قبل أصحاب الفكر الجهادي الذي كان ما زال قيد التشكّل، واحتاج إلى عام 1995 لتنفيذ أول هجمة انتحاريّة في فرنسا. 

يؤكد "روا" أن خيار العنفِ الذي يلجأ إليه فئة من الشباب الغربي ليس دينيًّا أو سياسيًّا وإنما هو ثورة عدمية يكون فيها الموت غاية ووسيلةً في آن معًا.

يمكن النظر إلى قراءة روا باعتبارها مقاربة أنضجَ من سابقاتها، إلا أنها تمركزت حول قضيّة الثورة العدميّة في عصر ما بعد الحداثة وآثارها، من خلال اقتراح أرضية لفهم عنف الشباب الأوروبي المنتسب للجماعات الجهاديّة؛ ولذا فإن دراسته تختصّ بالمجتمعات الأوروبية وتختلف في أسسها ودوافعها وسياقاتها عن عوامل توجّه الشباب العربي للتنظيمات الجهاديّة في مناطق انتشارها، وفيها أبعادٌ أخرى تصبُّ في تفاعل العدميّة مع العوامل السياسية والطائفيّة والدينية والاقتصاديّة.

إن تشتّت المنهجية واقتصارها على رؤيةٍ واحدة دون غيرها، في مسألة لا نشكّ في مدى تركّبها من عوامل مختلفة، يحتّم على المتخصّصين اجتراح رؤية متكاملة ومركّبة في تحليل جوانب الظاهرة الجهاديّة، بدءًا من دوافع التشكّل والتطوّر، مرورًا بوضع إطارٍ يوضّح عوامل الانخراط فيها بصورة كليّةٍ، وانتهاءً بفحص سلوكيّات الأفراد من الجهاديّيّن وفهم خلفيّاتهم الاجتماعيّة والسياقات النصّية التي يعتمدونها لتسويغ تصرفاتهم العنيفة وخياراتهم العقائدية.

المراجع:

1- مثل الكاتب الأمريكي روبرت سبنسر، ولورين ماري فاريلا. 

2  يمثّل الكاتب المصريّ يوسف زيدان حالة واضحة على ذلك. 

3- يُنظر على سبيل المثال النص الآتي في سفر يشوع: "وَحَرَّمُوا كُلَّ مَا فِي الْمَدِينَةِ مِنْ رَجُل وَامْرَأَةٍ، مِنْ طِفْل وَشَيْخٍ، حَتَّى الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ وَالْحَمِيرَ بِحَدِّ السَّيْفِ" [....] "وَأَحْرَقُوا الْمَدِينَةَ بِالنَّارِ مَعَ كُلِّ مَا بِهَا، إِنَّمَا الْفِضَّةُ وَالذَّهَبُ وَآنِيَةُ النُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ جَعَلُوهَا فِي خِزَانَةِ بَيْتِ الرَّبِّ.".

4- ينظَر على سبيل المثال: النص الآتي في إنجيل متى: 10/34 "لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا بَلْ سَيْفًا".

5- ينظر: عزمي بشارة، تنظيم الدولة المكنى داعش، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، 2018، ج1، ص: 36.

6-  يمكن في هذا المعرض الإشارة إلى مقالين مهمّين حول هذه المقاربة التفكيكيّة: 

الأوّل: انقلاب منبر الصلاة، نصوص الجهاديين بعيون المؤرخين، أ. محمد الربيعو، القدس العربي

الثاني: الجهاد والموت، التطرف كميتافيزيقيا عدمية، مولاي أرشيد، موقع معهد العالم للدراسات

7- الجهاد والموت، أوليفييه روا، ترجمة صالح الأشمر، دار الساقي، الطبعة الأولى 2017، ص7.

وسوم: العدد 868