الكبرياء مثلبة مفسدة لنفس المتكبر جالبة لكراهية الخلق له ومعرّضته لسخط الخالق في عاجله ولسوء المصير في آجله

حديث الجمعة :

مما اختص به الخالق سبحانه وتعالى دون خلقه الكبرياءـ وهي  في اللسان العربي عظمة ،ورفعة ، وقوة ،وسلطان، وجبروت،  . ولقد حرّم الله عز وجل أن يتصف أحد من خلفه بهذه الصفة، وما تحيل عليه من صفات في حديث قدسي يقول فيه جل في علاه ،وله الكبرياء في السماوات والأرض :

 " الكبرياء ردائي ،والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار"

وحين يتطاول الخلق على رداء الكبرياء الذي هو لله تعالى  يتحول معناها إلى  تجبّر ، واستعلاء ، وترفّع  عن الانقياد له سبحانه وتعالى ،وواضح أن صيغة التكبّر والتجبّر والترفّع وهي "التفعّل " تفيد  من ضمن ما تفيده في اللسان العربي  التكلّف ، ولا يتكلف متكلف إلا ما ليس له بحق أوما ليس من صفاته البتة .

وما طرد إبليس اللعين من رحمة الله عز وجل إلا لتكلفه الكبرياء والترفع عن الانقياد لخالقه جل في علاه ، وقد أخبرنا الله تعالى عن ذلك فقال :

(( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين  قال ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار خلقته من طين ))

بهذه الأنا المتكبرة  والمستعلية ترفّع  إبليس اللعين ، وهو مخلوق من مخلوقات الله عز وجل عن الامتثال لما امتثل له من هو أشرف طبيعة منه، وهم الملائكة الكرام صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين إذ خلقوا من نور، وأين النور من النار التي خلق منه هو؟  وما  الذي أدراه أن النار خير من الطين ، وعلمهما إنما هو عند رب العالمين ؟

ولقد أمر اللعين أن يسجد لما خلق الله عز وجل  وصور من تراب ، وهو الذي خلق وصور أيضا  من نور ومن نار ، وما كان عليه أن يخالف أمر خالقه وهو مقر بأنه مخلوق وشهد بذلك على نفسه ، وما نظن أنه يوجد أبلد منه إلا من سار على نهجه في الكبرياء من ضحاياه  .

ولما طرد من رحمة الله عز وجل ازداد حقده على الإنسان الذي كان سببا في هذا الطرد ، فقرر أن يكيد له كل كيد، وأقسم على ذلك بعزة الله عز وجل  كما جاء في محكم التنزيل  في قوله تعالى :

(( قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين قال رب فأنظرني  إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ))

ومعلوم أن الغواية ، وهي انقياد لهوى النفس كما انقاد لها إبليس حين رأى أن طبيعة النارية خير من طبيعة الإنسان الطينية هي ما هدد به لعنه الله  البشرية جمعاء . وعند التأمل نجد أن غواية الإنسان إنما هي تكرار لغواية إبليس اللعين والمتمثلة في عدم انقياده لأمر الخالق سبحانه وتعالى  كما لم ينقد لها إبليس حين أمر بالسجود ، ويدل على ذلك قول الله تعالى :

((  فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك فيها ألا تجوع ولا تعرى وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهم من ورق الجنة وعصى آدمه ربه فغوى ))

لقد كانت غواية إبليس اللعين بعصيان أمر الله  عز وجل له بالسجود ، وكانت غواية آدم عليه السلام بعصيان نهي  الله عز وجل له عن الأكل من الشجرة  هو وزوجه إلا أن معصية إبليس اللعين كانت عن كبرياء وعن قصد وتجاسر بينما كانت معصية آدم عليه السلام عن نسيان وضعف وإغواء من إبليس وبدون قصد أو تجاسر ، لهذا  قال الله تعالى لإبليس اللعين :

 (( فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين )) ، بينما قال عن آدم عليه السلام : (( ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى )) . فشتان بين غواية إبليس اللعين ،وغواية آدم عليه السلام .

ومعلوم أن إغواء إبليس اللعين الناس  جنهم وإنسهم  يبدأ من مثل ما أغوى به آدم عليه السلام ، وينتهي إلى ما غوى به  هو، وكان كبرياء ،وما بين هاتين الغوايتين غوايات شتى أقسم اللعين بعزة الله أن يغويهم بها  جميعا إلا عباده المخلصين .

و حال الناس في وقوعهم في  شراك إغواء الشيطان الرجيم نوعان : نوع تكون غوايته من نوع غواية آدم عليه السلام ، ويكون سببها  نسيان ،وضعف، وكيد شيطان مريد ، وهذه عسى الله عز وجل أن يتجاوز عن أصحابها ، ونوع  آخر تكون غوايته من نوع غواية إبليس اللعين، ويكون سببها الكبرياء  والاستعلاء ، وهذه لا يتجاوزها سبحانه وتعالى ولا يغفرها .

ولقد أخبر الله تعالى أن الطبيعة البشرية لها نزوع نحو الطغيان ، وهو استعلاء وكبرياء حين يرى الإنسان أنه قد استغني بنوع من أنواع الاستغناء ،فقال سبحانه وتعالى : (( إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى )) ، وهكذا يغري الاستغناء  بالطغيان ، وبفضي هذا إلى الكبرياء .

واستغناء الإنسان الذي يحمله على الطغيان والكبرياء يكون إما بسلطان أو جاه أو مال... أو غير ذلك مما يطغي سواء كان ماديا أم معنويا .

 ولقد ضرب  الله عز وجل أمثلة  في كتابه الكريم عن أنواع من الكبرياء كمثال كبرياء  فرعون الذي أطغاه السلطان  فقال تعالى : (( إنه كان عاليا من المسرفين )) حتى أن إسرافه بلغ به  ادعى الربوبية العليا كما جاء في قوله تعالى : ((  فحشر فنادي فقال انا ربكم الأعلى ))  .

ومن الأمثلة مثال كبرياء قارون الذي أطغاه المال ، حيث قال الله تعالى : ((  إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين )) ،والفرح هنا هو كبرياء وبطر سببه الاستغناء بالمال .

ومن الأمثلة أيضا مثال جالوت الذي أطغته قوته وقوة جنده ، حيث قال الله تعالى واصفا  تلك القوة على لسان المؤمنين من قوم طالوت : ((   قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده )) .

وذكر الله تعالى أمثلة أخرى من الطغيان كطغيان عاد إرم ذات العماد وثمود ...وغيرهؤلاء ، وكان لكل قوم طغيانهم ، طغيان مال أو سلطان أو قوة ...أوغيرذلك مما كانوا يرون أنهم قد استغنوا به .

وعرف التاريخ نماذج  كثيرة من الطغيان كان محركها الاستغناء وما ينتج عنه من كبرياء، ولا يخلو عصر من العصور منها .

و لقد جرت سنة الله عز وجل أنه ما نازعه كبرياءه أخذه نكال الآخرة و الأولى، فكان نكال الأولى غرقا أو خسفا أو موتا أحمر أو ريحا صرصرا ....  

ومن أنواع الكبرياء  كبريا الذين يرون أنفسهم قد استغنوا فكرا وعلما ومعرفة، فيستكبرون في أنفسهم ،ويعلون علوا كبيرا ، فيتجاسرون تجاسر إبليس اللعين على ربه سبحانه و تعالى ، ويستنقصون من شأن علمه ووحيه ، ويدعون أن ما أوتوا من علم ومعرفة وفكر فوق علم الله ،تعالى عما يصفون ، ويظنون أن شرائعهم فوق شرعه، وأنها بدائل عنه ، ويرون أن شرعه  قد أكل عليه الدهر وشرب ، وأنه قد أصبح  مجرد تراث من الماضي الغابر ككل أنواع التراث وكأنه بقايا أوان خزفية  أو معدنية قديمة مما كان في الماضي البعيد.

وإلى جانب التجاسر على الخالق سبحانه وتعالى ، يحتقر هؤلاء الخلق كبرياء وعلوا  خصوصا  منهم الذين يتمسكون بشرع الله عز وجل ووحيه ،  ويستصغرون شأنهم، ويسخرون منهم ، ويعتبرونهم أراذل أوسفلة كما حكى الله تعالى عن الملإ الطغاة من  قوم نوح (( فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل  بل نظنكم كاذبين  )) .

ويكاد هذا الوصف ينطبق اليوم  تماما على  بعض الذين يرون أنفسهم قد استغنوا فكريا من العلمانيين ، وقد أطغاهم ذلك طغيانا كبيرا ، فهم يرون أنفسهم  أعلون  وحداثيين متنورين، ويرون المسلمين سفلة رجعيين وظلاميين ، ويجعلون علماء المسلمين كعامتهم مستصغرين شانهم، ويحملونهم مسؤولية ما يعتقدونه  سبب تخلف هؤلاء العامة ، وهكذا يبدو لهم الأمر كما بدا للملإ من قوم نوح من قبل  ، ولا يرون للمسلمين عليهم فضلا بل يظنونهم جهّالا ومتخلفين، ودون مستواهم الفكرية العالية  والراقية تماما كما  كان يظن ملأ قوم نوح  بأنفسهم مقارنة بمن اعتبروهم أراذل  وسفلة .

وهذه أقبح صورة للكبرياء في هذا الزمان  إذ المطلوب فيمن يدعون الانتساب  إلى الفكر والمعرفة ألا يركبوا غرورهم ، وألا يتجاسروا على وحي الله عز وجل وشرعه ، وألا يتعالوا ويسخروا من عباده المؤمنين الذين يتبعون دينه ويؤمنون بوحيه ويتقيدون بشرعه ، وأولئك المتكبرين  يصدق عليهم قول الله تعالى : (( أفمن كان على بينة من ربه كمن زيّن  له سوء عمله  واتبعوا أهواءهم )) .

ولقد أنكر بعضهم لجوء المؤمنين إلى ربهم بالدعاء والضراعة ليرفع عنهم الجائحة التي حلت بالبشرية ، فسخروا منهم ، وسفهوهم ، علما بأن حتى من يكبرون في أعينهم من قادة العالم الغربي لم يستنكفوا عن دعاء الله عز وجل على طريقته ، وما كان لهم أن ينكروا عليهم ذلك وما ينبغي لهم وما يستطيعون ،لأنهم يكبرون في أعينهم ويستعظمونهم بينما وجدوا في دعاء المؤمنين ربهم فرصة للتنذر بهم والسخرية منهم .

وفي الأخير نعوذ بالله عز وجل من كبرياء إبليس اللعين وقبيله من الجن والإنس ، ونحمده  سبحانه وتعالى حمدا كثيرا حتى يرضى، وإذا رضي، وبعد الرضى ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 870