الحنينُ إلى المساجدِ وصلاةِ الجمعةِ والجماعةِ

كثيرةٌ هي الأشياء العزيزة الجميلة المحببة إلى قلوبنا التي حرمنا منها فيروس كورونا، وأجبرنا بخطورته وعدوانيته المفرطة وسرعة انتشاره وقوة فتكه، على التخلي عنها والتفريط فيها وعدم التمسك بها، والتنازل عنها كرهاً لا طوعاً، وجبراً لا اختياراً، رغم أن النفس تشتاق إليها وتحن، والقلب يتعلق بها ويحب، والروح تهواها وتتطلع إليها، لكن الوباء لا يرق له قلبٌ ولا يرحم، ولا تلين له عزيمةٌ ولا يفتر، ولا تنكسر له شوكةٌ ولا يتعب، فهو يصيب الجميع بدائه، ويخنق الأنفاس بضراوةٍ، ويوزع الموت على البشرية بلا هوادة، ويتربص بها بلا رحمة، فأجبر سكان الأرض جميعاً على الخوف منه والرهبة، وتجنب مسالكه والهروب من معابره، لئلا يطالهم غضبه، أو يعضهم بنابه ويحل عليهم سخطه.

قد يتفاوتُ الناس الذين أجبرتهم كورونا على البقاء في بيوتهم، والالتزام فيها وعدم مغادرتها، واحترام حالة الطوارئ وقوانين منع التجوال، والانضباط التام بلا خرقٍ أو مخالفةٍ، في تقدير حجم خسارتهم وعمق مأساتهم، وذلك فيما يتعلق بالتخلي عن متع الحياة ومباهجها، والابتعاد عن زخرفها وزينتها، والإقلاع عن العادات التي أحبوها، والتقاليد التي ورثوها، والاكتفاء بالبيت سكناً وبسكانه أهلاً وخلاناً، وفي هذا الشأن لا يتساوى الناس ولا يتشابهون، فهم مشاربٌ شتى وأذواقٌ مختلفةٌ، ولهم أهواءٌ متباينةٌ ورغباتٌ متعددةٌ، وكلٌ منهم حرٌ في تقدير خسارته، وتقييم حالته، والحسرة على ما فقد، والندامة على ما حُرِمَ.

لعل عمارة المساجد وارتيادها، وصلاة الجمعة والجماعة فيها، وشد الرحال إليها وأخذ الزينة فيها، هي أكثر ما افتقده المسلمون وخسروه في ظل جائحة كورونا، التي أجبرتهم بفتوى علمائية شبه جامعةٍ، وإجازة دينية من أعلى المراجع الفقهية، ومن جميع المذاهب في مختلف البلاد الإسلامية، على الانقطاع عن المساجد وعدم الدخول إليها والصلاة جماعة فيها، والاكتفاء بالصلاة في البيوت والمنازل، فرادى أو جماعةً مع الأهل والأولاد، واعتبروا ذلك يفي ويجزئ، ويسقط بها الواجب وينوب عن الفرض في ظل مثل هذه المصائب والنوائب، فأغلقت بهذه الفتوى أبواب المساجد، وطُويَ سجادُها ورفع فراشها، وتعطلت فيها الصلاة الجامعة، رغم رغبة البعض بالحفاظ عليها ضمن ضوابط سليمة ومحاذير مدروسة، وتدابير وقائية واحتياطاتٍ صحيةٍ، إلا أن الخوف من الفيروس كان أكبر، وأخبار اجتياحاته للبلدان والساحات كانت أسرع، وأعداد ضحاياه إصابةً ووفاةً كانت في ازديادٍ دائمٍ مضطردٍ.

ها هي جُمَعٌ خمسة متواليةٌ مضت على المسلمين في أغلب بقاع الدنيا، لم يسعوا فيها إلى ذكر الله عزَّ وجلَّ في بيوته، وتعظيم شعائره في مساجده، فلم يُرفعْ فيها اسمه ويُذكرُ، رغم أن النداء إلى الصلاة من يوم الجمعة بقي يُرفَعُ، والأذان من فوق المآذن لم ينقطع، وحنين المسلمين إلى مساجدهم لم يتوقف، إلا أن أبوابها قد أغلقت كَرهاً، وباحاتها من المصلين قد فرغت قسراً، ومصاطبها من طلاب العلم قد خلت خوفاً، وأركانها من العُبّادِ والحُفَّاظ قد حُرِمَت وقايةً، وغدت زواياه خاويةً على عروشها، يتردد في جنباتها صدى صوت المؤذنين ودعاء من سكنوا فيها ولجأوا في ظل الجائحة إليها، وهم قلةٌ من جيرانها أو بعض سدنتها، القائمين على حراستها ونظافتها، والمكلفين بالحفاظ عليها ورعايتها.

يعلم المسلمون أكثر من غيرهم أن عليهم في ظل الأوبئة والأمراض الالتزام بالتعليمات والأخذ بالإرشادات وتنفيذ التوصيات، وعدم المخاطرة بالحياة والاستخفاف بالمرض، ولا الإهمال في الوقاية أو التفريط في الحماية، فرسول الله صلي الله عليه وسلم قد أمرنا بالحيطة والحذر، وأوصانا بالوقاية وتجنب التعرض للإصابة، إذ أمر المسلمين في حال نزل الطاعون بأرضٍ ألا يدخلوها، وإذا وقع في أرضٍ وهم فيها فلا يخرجوا منها، مخافة أن ينتشر الوباء ويَعُمَّ المرض، الذي ينتقل بالاختلاط والتماس المباشر، وينتقل بين الناس بسهولةٍ ويسرٍ.

ولهذا فإنهم يقبلون بحزنٍ وألمٍ الامتناع عن الاجتماع في المساجد، والتوقف عن الاحتشاد فيها لصلاة الجمعة أو الجماعة، ويلتزمون بالفتوى ويحترمون القرارات الحكومية، ذلك أنهم يعلمون أن هذا الحظر لفترةٍ قصيرةٍ ومدةٍ محدودةٍ، وبعدها سيزول المرض وسينتهي الوباء وسيعودون إلى مساجدهم فيعمروها، وإلا صلاتهم الجامعة فيها فيقيموها، وإلى شعائرهم الدينية المختلفة فيحيوها.

لا شيء يعدل المساجد وبيوت الله عز وجل لدى المسلمين جميعاً، فصلاة الجماعة فيها تفوق صلاة الفرد ببضعٍ وعشرين درجة، وكل خطوةٍ إليها بأجرٍ، وكل سعيٍ نحوها بمثوبة، والمكوث فيها عبادة، والانتظار فيها اعتكافٌ، والصلاة فيها لجارها ومن يسمع النداء واجبة، إذ لا صلاة لجار المسجد ولمن سمع النداء إلا فيه، ولو كان أعمى بلا دليلٍ، أو ضعيفاً بلا عونٍ أو سندٍ، والمشاؤون إليها في الظُلَمِ مبشرون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة والنور التام يوم القيامة، والمتعلقون فيها والمحبون لها صنفٌ من سبعةِ أصنافٍ من الخلق يظلهم الله عز وجل  في ظله يوم القيامة، يوم لا ظل إلا ظله، ولا رحمة مرجوة إلا منه وحده سبحانه وتعالى.

فاللهم أعد إلينا طمأنينتنا وسلامتنا، وعافيتنا وصحتنا، وارفع من بيننا هذا الوباء، واكشف هذه الغمة، وأعدنا إلى بيوتنا ودورنا، وإلى مساجدنا وجامعاتنا، وجمعتنا وجماعتنا، وإلى أعمالنا ومرافقنا، فاللهم ليس لنا إلا أنت منقذاً، ولا كاشف لهذا البلاء سواك، فإليك سبحانك وحدك نرفع أكف الضراعة، وتبتهل ألستنا بالدعاء، فعجل اللهم لنا بالفرج، إنك على ذلك قديرٌ وبالإجابة جديرٌ.

وسوم: العدد 872