(( وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم ))

من المعلوم أن الإيمان بما أنزل الله عز وجل من كتب يعتبر ركنا من أركان الإيمان  الذي لا يصح دون ركن من أركانه . ومعلوم أيضا أن آخر ما نزل من الكتب  يلزم كل البشر  إلى قيام الساعة بالإيمان به ، ومن لم يؤمن به فما هو بمؤمن وإن ادعى  الإيمان . ومعلوم أيضا أن القرآن الكريم هو الكتاب الذي يساير حياة البشر بكل ما فيها من تفاصيل  حتى تقوم الساعة . ومن الخطأ أن ينعت بأنه تراث ، لأن التراث هو ما مضى عصره وانتهي ، والقرآن الكريم لا ينسحب عليه هذا الوصف لأن الله عز وجل أراد أن يكون رسالته للعالمين من أول شخص آمن به إلى آخر شخص يشهد قيام الساعة .

و الناس مع  الإيمان بالقرآن الكريم  ثلاثة أنواع  : نوع أول آمن به واهتدى ، ونوع ثان كفر به وضل ، ونوع ثالث كذب في إيمانه به ونافق وهو مع النوع الثاني في ضلاله . ولا تختلف مقولة الكافرين بالقرآن الكريم عن مقولة المنافقين، فكلهم ينعت القرآن الكريم بأنه إفك قديم كما جاء في قوله تعالى : (( وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا )) .

ولئن كان الكافرون واضحين في موقفهم من كتاب الله عز وجل وهو الجحود الواضح به ، فإن المنافقين في كل زمان يظهرون الإيمان به ، وهم يخفون حجودا به لا يختلف في شيء عن جحود الكافرين ، لأن المنافقين في حقيقة  أمرهم نوع من الكافرين كفرا خفيا غير معلن عنه ،ولكنه يفتضح بما يصدر عنهم  من أقوال لا تختلف في شيء عما يقوله الكافرون الكفر البواح .

ولقد  فضح الله عز وجل أمر الكافرين الصرحاء والمنافقين منهم ، وبيّن السر من وراء وصف كتابه الكريم بالإفك القديم وهو عدم الاهتداء به . ولا يكون الاهتداء به إلا لمن أراد له الله عز وجل الهداية مصداقا لقوله تعالى : ((  من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه )) .

ويظن بعض المنافقين في هذا الزمان أنهم شطّار وأذكياء ،وذلك بخوضهم في كلام الله عز وجل خوض الساخرين المستهزئين به وبمن يؤمنون به . ومن أساليبهم في  ذلك أنهم يحاولون إقناع غيرهم بأنهم بشر من نوع آخر لا يخضعون إلى سنن الله عز وجل المنسحبة على كل البشر دونما اعتبار لأزمنتهم أو أمكنتهم . فعلى سبيل المثال لا الحصر  نجدهم  يستثنون أنفسهم من سنة إنزال الله عز وجل العقاب بهم، وكأن ذكر القرآن الكريم للأمم التي أنزل بها الله تعالى عقابه إنما هي للتسلية وليست للتحذير . وإنه ليفهم  مما يصدر عنهم  بخصوص أنباء الأمم التي أهلكت بذنوبها  قولهم ذلك إفك قديم أو بتعبير آخر  تلك أساطير . وإنهم ليجعلون الغيب الذي أخبر به الله عز وجل في كفة واحدة مع الأساطير التي هي من أوهام البشر وخيالهم . وإن منافقي هذا الزمان وهم يحلمون بمجتمع لاديني يرون أن القرآن الكريم لم  يعد صالحا لهذا العصر ، وقد نزل في أميين انتهى أمرهم ، أما هم فبشر من طينة أخرى لا يمكن أن يخضعوا لما خضع له من نزل فيهم لأن ما هم فيه من تطور يعطيهم الحرية للتخلص من سلطانه  ،وهم يعتدون بعقولهم ، وكأن من كانوا قبلهم لم تكن لهم عقول ،وأن العقل حكر عليهم وحدهم . وإنهم يعتبرون القرآن وحيا لا حظ له من العقل . بل يذهب بعضهم إلى أن هذا الوحي كان مناسبا لزمن مضى  حين كان الناس فيه يؤمنون به ويصدقونه لضعف عقولهم  وسذاجتهم ، ولما نضجت العقول في هذا الزمان لم يعد للوحي محل من الإعراب على حد قول النحاة .

وعبارة (( هذا إفك قديم )) التي وردت في وصف من لم يهتدوا بالقرآن الكريم تدخل تحتها كل العبارات الساخرة التي تصدر عن منافقي هذا الزمان سواء التي يصفون بها كلام الله عز وجل أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم أو كلام صحابته رضي الله عنهم أو كلام أئمة العلماء أو كلام عامة المسلمين . أليست عبارة " نهاية أسطورة البخاري " تدل على مقولة (( هذا إفك قديم ))؟ أليس إنكار وجود الصديق والفاروق رضي الله عنهما يدخل ضمن هذه المقولة ؟ أليست السخرية من توجه المسلمين إلى ربهم بالدعاء والضراعة ليرفع عنهم بلاء وباء حل بالناس يدخل أيضا ضمنها ؟ أليس الاستهزاء بالتيمم والاستنجاء والاستبراء وهي أمور وردت في كتاب الله عز وجل يدل على مقولة (( هذا إفك مبين )) أليس الجزم  بنفي أن  يكون وباء حل بالناس عقابا إلهيا ، وقد ورد مثله في القرآن الكريم وفي السنة النبوية المشرفة  . وما الذي يمنع أن يكون هذا الوباء عقابا إلهيا والناس يتعاطون مثلية قوم لوط ، ويطالبون بحقوق المثليين ، ويتعاطون الزنا ويسمونه رضائية  للتمويه عنه كما تعاطاه من كانوا قبلهم  ، ويتعاطون الخمر الميسر ، والربا  ، ونقصان المكيال والميزان ... إلى غير ذلك مما كان الله عز وجل  يعاقب عليه من كان  قبلهم من الأمم .  فهل اتخذ هؤلاء عهدا عند الله عز وجل ألا يعاقبهم بما عاقب  به غيرهم ؟

إن مقولة (( هذا إفك قديم )) قد غرت منافقي هذا الزمان ، وجعلتهم يركبون غرورهم ويظنون أنهم بمنجاة من عقاب الله عز وجل لأنهم بشر من نوع آخر ، وأن من كان قبلهم لم يكن في مستواهم العقلي  الذي جعلهم فوق المحاسبة الإلهية ، وأن ما يحل بهم من كوارث لا علاقة له بغضب الله عز وجل أو عقابه بل هي أمور جرت بها العادة ، وفي هذا الظن ما فيه من تكذيب لما جاء في كتاب الله عز وجل . ولا ندري هل يريد هؤلاء أن يبعث رسول بعد الرسول الخاتم ليخبرهم بحقيقة وطبيعة ما يحل بهم  أو أنهم  صاروا يسدون مسده في إخبار الناس بأن ما يحل بهم ليس عقابا من الله عز وجل ؟

وسوم: العدد 877