ترامب لسان يهدد ويتوعد ويد ترفع الإنجيل

بالأمس خرج الرئيس الأمريكي من بيته الأبيض  والغضب والانفعال يعلوان سحنته ، وهو يتحدث مزمجرا ومتوعدا المتظاهرين  الذين أخرجتهم  غاضبين إلى شوارع المدن الأمريكية جريمة بشعة ذهب ضحيتها  أحد المواطنين السود  الذي قضى خنقا تحت ركبة  شرطي من البيض .

وكعادته جمع الرئيس الأمريكي بين متناقضات حيث عبّر عن استنكاره جريمة القتل ووعدد بتطبيق العدالة  ، وحرص على إظهار قبوله لما سماه احتجاجات سلمية في جملة واحدة، ولكنه في المقابل  خصص باقي جمل كلمته المقتضبة  للوعيد والتهديد بنشر الجيش الأمريكي المدجج بالسلاح بكثافة في الولايات والمدن الأمريكية لقمع ما سماه الإرهاب الداخلي ، والتحريض على العنف .

 وفي الوقت الذي كان ترامب  يتوعد ويهدد كان المواطنون الأمريكيون بيض وسود على حد سواء  يتظاهرون سلميا رافعين أيديهم إلى الأعلى في إشارة منهم إلى أسلوبهم السلمي في التظاهر مطالبين بالعدالة  وعناصر من قوات الأمن  المشاة الراجلون منهم والممتطون صهوات الخيل والدّراجون  يرمون المتظاهرين بالقنابل المسيلة للدموع ويدفعونهم  دفعا عن محيط حدائق الورود  حيث يتربع البيت الأبيض .

وهكذا بدا المشهد في غاية التناقض متظاهرون يعبرون عن سلمية التظاهر ، وقوات أمن تتعامل وكأن الأمر يتعلق بشغب ، ورئيس يعبر عن قبول التظاهر السلمي ، وفي نفس الوقت يهدد بأعنف العبارات المتظاهرين ، ويتوعد بتحريك أكبر جيش في العالم  مدجج بالسلاح لا ليخوض حربا من حروبه المعتادة خارج حدود بلاده بل ليدخل في مواجهة مع متظاهرين يرفعون أيديهم تعبيرا عن التزامهم بسلمية التظاهر .

وما هي إلا لحظات حتى نقلت وسائل الإعلام ترجل الرئيس الأمريكي من مقر إقامته بالبيت الأبيض وهو محاط بوزير دفاعه ووزير عدالته وبطانته وبحراس أشداء أقوياء وأولي بأس شديد ، ومشى عدة أمترا بين المتاريس حتى وصل إلى بوابة كنيسة، فرفع نسخة من الإنجيل بيمينه مقسما على ما توعد به ، فبدا المشهد في غاية التناقض ، ذلك أن رفع الإنجيل في الثقافة المسيحية كما يزعم أهلها لا يناسب سياق التهديد والوعيد ، وهو الذي يقال أنه يتضمن عبارة " إذا صفت على خدك الأيمن فأدر الخد الأيسر لمن صفعك " . ولا شك أن رفع ترامب للإنجيل كان إحياء لسنة الصليبيين الذين كانوا يرفعونه لخوض الحروب ولتبريرها باسم الرب ،وقد وردت على لسانه في كلمته أن ما يحدث في المدن الأمريكية إنما هو حرب على الله على حد قوله ،وذلك  في إشارة منه إلى تعرض الكنيسة التي رفع عند بابها الإنجيل للإحراق .  و بعد ذلك قفل الرئيس الأمريكي راجعا إلى مقره دون أن يقابل المتظاهرين الذين كانوا على مرمى حجر منه ليعبر بالفعل أنه مع التظاهر السلمي كما عبر عن ذلك في كلمته ،ولكنه لم يفعل أو لنقل لم يجرؤ على ذلك ودخان القنابل المسيلة للدموع يغطي سماء حديقة بيته الأبيض المزهرة ، وقوات أمنه تدفع المتظاهرين المسالمين بعيدا عنها . وعاد الرئيس متبخترا في مشيته يلتفت يمينا وشمالا كأنه مرتاب في فعالية حراسه الأقوياء الأشداء، وبدا منظره بين المتوجس والمتظاهر بالطمأنينة، وسحنته لم يفارقها الانفعال .

وعلى طريقة الحكام المستبدين حاول ترامب أن يشيطن المظاهرات ، ويوظف كلمة إرهاب داخلي المقابلة لكلمة إرهاب خارجي التي جرت العادة أن تقضى بها مآرب الولايات المتحدة في كل أرجاء المعمور، وهي المبرر غير القابل للطعن  عند حكامها .

ومعلوم أن الذي يجر المظاهرات السلمية  في الغالب إلى العنف هو تدخل قوات الأمن التي سرعان ما تضيق بالتظاهر السلمي، فتلجأ إلى استعمال العنف الذي يستفز المتظاهرين فتصدر عنهم ردود أفعال عنيفة مقابل أفعال قوات الأمن العنيفة . ومن المعروف  أيضا عن الأنظمة المستبدة في تعاملها مع المظاهرات السلمية أسلوب دس ما يسمى في منطقة الشرق الأوسط بالبلطجية أو الشبيحة وهي عناصر موالية لتلك الأنظمة  وسط المتظاهرين المسالمين قصد شيطنتهم وتوفير المبرر لاستعمال أقصى حدود العنف ضدهم ، وللزج بأعداد كبيرة منهم في المعتقلات والسجون لمواجهة أقسى أنواع العذاب ، ومن يدري قد يكون ترامب قد استفاد من تجربة الأنظمة المستبدة .

ومما جاء في تهديد ترامب أن المشاركين في التظاهرات سيواجهون مدد حبس لعشرات السنوات ، وكان هذا من أغرب ما صدر عنه في كلمته حيث سبق العدالة الأمريكية التي أشاد بها في بداية كلمة وعيده، فنطق بحكم دون محاكمة أو مرافعة أو دفاع أو استحضار لقانون أو احترام للديمقراطية المتبجح بها في الولايات المتحدة .

والرئيس الأمريكي بما صدر عنه لم يترك للأنظمة المستبدة  ما تخترعه من أفانين الاستبداد ، ولا شك أن ذلك سيكون بمثابة ضوء أخضر منه لتتمادى في استبدادها وقمع كل من يعارض سياساتها التعسفية .

وأخيرا نقول ما أشد تعاسة عالم فيه أمثال هذا الرئيس في بلد الديمقراطية ـ يا حسرتاه ـ  ولا ندري إلى أين يسير هذا العالم الذي يترقب انتصارا على جائحة كورونا عوض الانتصار على التظاهرات السلمية للشعوب التي يحركها  الشعور بانعدام الأمن وانتشار الظلم ، وغياب العدالة ، وعدم انتهاء الميز العنصري في أكبر بلد في العالم يتزعم ديمقراطيات الغرب ، والذي لا زالت عبارة " مواطن أمريكي من أصل إفريقي " غالبة على الاستعمال فيه ، وفي المقابل لا تستعمل عبارة " مواطن أمريكي من أصل أوروبي " علما بأن عبارة " مواطن أمريكي من أصل أمريكي " لم تعد تستعمل بعد استئصال السكان الأصليين .

وما دامت الإشارة إلى الأصول الإفريقية سارية المفعول في بلد الديمقراطية الأكبر، فيجب التكبير أربعا كما يقول المسلمون على المساواة والعدالة فيه وفي كل بلد يحذو حذو سياسته . 

وسوم: العدد 879