حديثٌ في فقه اللغة: الفرقُ بين المُزَمِّل والمُدَثِّر

قال الله مخاطبًا النبيَّ صلى الله عليه وسلم: " يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا " المُزَمِّل: 1، 2.

و قال أيضًا: " يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ " المُدَثِّر: 1، 2.

-      فما هو الفرق بين اللفظين؟

قبل الخوض في الحديث عن ذلك، نرى التنبيه على الآتي:

1ـ من عادة العرب أنّها إذا ذكرت المنادى بوصف هيئته، من لِبسة أو جِلسة أو ضِجعة؛ كان المقصودُ في الغالب التلطفَ به، والتحبّبَ إليه؛ ومن هنا وقع نداء النبي صلى الله عليه وسلم بهذين الندائين، وهو نداء له باعتبار حالته وقت ندائه، وليس ذلك اسمًا له على ما ذهب بعض المفسرين.

2ـً صحيحٌ أنّ مآل المعنى في ( المزمل ) و (المدثر ) واحد، غير أنّ بينهما اختلافًا في المعنى على وجه الدقة؛ لاختلاف أصل الاشتقاق فيها، و لأنّه بات شبه مجمع عليه أنّه لا ترادف في القرآن الكريم.

3ـً يكاد ينعقد الإجماع على أنّ سورة ( المزمل ) نزلت قبل سورة ( المدثر ).

أـ معنى ( المُزَمِّل ):

جاء في لغة العرب: ازَّمَّلَ الشَّخصُ بثوبه تزمَّل، تلفّف به وتغطّى لما أصابه من الخوف والارتعاد. وزمَّله بالثَّوب لفّه به وأخفاه. وزمَّلت الأمّ ولدها من شدّة البرد.

قال ابن عاشور في التحرير والتنوير: 29/ 256: " والمزمل: اسم فاعل، من: تزمل، إذا تلفف بثوبه كالمقرور، الذي أصابه البرد، أو مريد النوم.

وقد أشار القرآن إلى بداية نزول الوحي، على نحو ما ثبت أيضا في حديث عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: ( أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلاَءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَة،َ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ المَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ "، العلق: 2، فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي ، فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ ).

ب ـ معنى ( المُدَثِّر ):

جاء في اللغة: الدِّثارَ: هو ثوبٌ يُلْبَس فوق ما يلي الجسدَ من ملابس. وادّثّر: غَطَّى جسمَه، أو ألقَى على جَسَدِه كِساءً يقيه من البرد . ويكون ذلك في وقت الاسترخاء في النهار، وفي غير وقت النوم من الليل.

لقد نادى الله نبيه بلفظ ( المدثر )، وأصل الكلمة تدل على حمل خفيف؛ لأجل الحالة التي كان عليها بعد نزول الوحي عليه، وبعد فترة انقطاع الوحي، فهو قد أصابه رعب من نزول الملك ( جبريل ) أول مرة، ثم أصيب بالرعب منه بعد فترة الوحي مرة ثانية؛ فخاطبه الله بـ ( يا أيها المتدثر) في ثيابه، ( قم ) وانفض عنك هذه الثياب، وادع إلى ربك، ولا تخش شيئًا .

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الوَحْيِ، فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: ( فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا المَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَجَئِثْتُ مِنْهُ رُعْبًا، فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَدَثَّرُونِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: " يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ "، إِلَى " وَالرِّجْزَ فَاهْجُرْ" قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلاَةُ، وَهِيَ الأَوْثَانُ ).

يقول ابن عاشور في التعليق على أسلوب التركيب فيهما (التحرير والتنوير: 29/ 257): الفعل ( قمْ الليلَ ): منزل منزلة اللازم ( أي جاء من غير تعليق جواب له )؛ فلا يحتاج إلى تقدير متعلق لأن القيام مراد به الصلاة، فهذا قيام مغاير للقيام المأمور به في سورة المدثر بقوله: ( قمْ فأنذرْ )؛ فإن ذلك بمعنى الشروع ( لذلك جاء بتعليق فعلٍ جوابٍ له ).

وسوم: العدد 879