وَرَاوَدَتْهُ... [يوسف : 23]

هذه الكلمة بمفردها غاية في الاحتشام، ونزاهة التعبير وتنوع المعاني

ولعلي لا أبالغ إذ أقول: إن هذه الكلمة وحدها تكشف منهج أهل الشهوات في الوصول إلى مرادهم!

كيف ذلك؟

أولا: الكلمة تدل على الطلب والدعوة ، هذا في المجمل

لكن هذا الطلب وهذه الدعوة لها صفات إن علمتها ساعدتك هذه الكلمة على التحصن من الشهوات

سأوضح لك ذلك

راود من معانيها الطلب برفق وتأن ، تأمل "برفق وتأن" مع أن الموضوع موضوع شهوة ، لكن هذا طبيعي ، لماذا؟

حقيقة أن أهل الشهوات لا يستطيعون الوصول لمرادهم إلا بهذا الوصف "الرفق والتأني"

وهنا يتضح لك أن الرفق والتأني عند أهل الشهوات في علاقاتهم ليس خلقا ممدوحا بل هو ستار مخادع يخفون وراءه نياتهم الخبيثة ، ومن فهم الآية زاد عنده الوعي في خصائص العلاقات بين الذكر والأنثى، مع التذكير أنه ليس من المقصود سوء الظن، وإنما تشكيل عقل واع محتاط من الفتن.

.

تأتي راود من راد بمعنى "جاء وذهب طلبا للشيء"، وكأني بالنص القرآني يشبه فعل المراود بذاك الرجل الذي يذهب ويجيء مرة بعد مرة لا يكف عن المحاولة للحصول على مطلوبه، لذلك فإن العاقل لا تبهره هذه المحاولات، ولا تدخل عنده في حساب الحب والتضحية والبذل وتجشم الصعاب، فما هي إلا مراودات،

وهي دعوة قرآنية لأولئك الذين ابتلوا بهذا أن يكفوا عن هذه المحاولات ويحولوا طاقاتهم لشيء أنفع لهم في الدنيا والآخرة، وهي في الوقت نفسه تحصين للمؤمنين وخاصة جنس النساء اللاتي يسارعن في الإعجاب بما لا يستحق.

.

من عجيب الفعل راود -أيضا - أنه من "راد" بمعنى الذي" يتقدم أهله لاختبار الأرض والمرعى"، وههنا تشبيه لطيف وكأن  المراود  يقوم باختبارين

الأول : القيام بانتقاء ألفاظه ورسائله لتتلاءم مع الضحية ، فهو يخاف من تلك الكلمة المتعجلة أو الفعل السابق لأوانه الذي قد ينشئ ردات فعل غير متوقعة عند الطرف الآخر، فيخسر رهان العلاقة وتذهب محاولاته سدى.

والثاني : أنه يسمع وينظر ويراقب ويختبر نتائج تلك الرسائل التي بعثها وتدرج في تطويرها عند القابل هل أثمرت وأينعت وحان وقت القطاف، هل ردت التحية، هل الموضوع متقبل؟

وفي الحقيقة أن كل المصائب التي حدثت وما زالت تحدث سارت على نفس الخطى في تطور العلاقات بين الجنسين من خلال التدرج في هذه الرسائل القولية والعملية بين الطالب والقابل والله المستعان.

.

أيضا تجد الفعل راود يحمل في طياته اللغوية معنى جديدا ، وعجيب أمر هذا الفعل الذي ما زال يمدنا بالمعاني والهدايات

إنه "الاحتيال والخداع"، وهذا له علاقة وثيقة "بالإرادة" التي هي مبدأ كل فعل

كيف؟

يقول أهل اللغة المراودة: "أن تنازع غيرك في الإرادة، فتريد غير ما يريد"

وهذه المراودة هدفها النهائي أن تخرجه عن نفسه حتى يسلم لك إرادته وحكمه فيصير تحت إرادتك وحكمك ، فهي مراودة هدفها سلب الإرادة وإنشاء إرادة موافقة لإرادة المراود.

وهذا الأمر لا يتم للطالب إلا بأمور ليس هنا محل ذكرها أبرزها "اللعب بالعواطف" ، و"قدح زناد الشهوة" ، ثم تطوير ذلك حتى يصل إلى المطلوب

ومن المناسب أن أقول هنا  أن أكبر مصطلح مراودة استخدمه الخلق تنزيلا له من رتبته الشريفة النفيسة إلى دركته الحقيرة الخسيسة هو مصطلح "الحب" ، وعلاقته  بالقلب واضحة وتحكمه بالإرادة لا يخفى ، وكم من فتاة ضاع عمرها وشرفها جراء اللعب في عاطفتها، وكم من فتى ضاع عمره وهو يجري وراء هذه الشهوات والأوهام ، والجنون فنون والنفس واسعة الإعذار.

.

المراودة مصطلح قرآني عميق ، ذكره الله لك -أولا - لتتقيه وتكف عن حيل النفس الأمارة بالسوء وتنتهي عن المراودة وهتك عورات الناس.

ثم هو تنبيه قرآني لك  لتتعقل وتعي  و لا تنخدع بتصرفات كثيرة ظاهرها الرحمة والحب وباطنها العذاب والغش والخداع

والخلاصة العملية "لا تراود ولا تغتر بالمراود" والله ربنا هو الرحمن الوكيل المستعان الماجد الواحد.

وبارك الله فيكم

وسوم: العدد 881