الواقع... ومستلزماته

عقاب يحيى

قد نرفض، ويجب أن نرفض جميع" التنازلات" ومحاولات الضغط للتكييف، والتطويع، والتهميش، أو إدخالنا قفصاً ما .. صغيراً كان أم فضفاضاً قليلاً..

وقد نعلي نبرة الخطابات، ونرفع مزيد الشعارات عن الثورة والوفاء . الدماء والشهداء . الثوابت والأهداف . الشعب والرايات والمبررات.. الأمانة والخيانة ..الصدق والمرونة. التكتيك والثبات....

وقد نتكلم كثيراً عن الداخل والمسافات والواجبات.. والإجرام في مقابل التضحيات . والاحتلال الإيراني والمليشيات . وداعش والإرهاب.. وكثير كثير من الرايات التي نرفعها ويقبع عديد تحت ظلالها، او يستثمرها لصالحه الخاص ..

لكن السؤال الكبير :

ـ  أين نحن من الواقع ؟؟...

ـ أين نحن من ميزان قوى له مرتسماته وتجسيداته على الأرض ؟؟..

ـ أين نحن من الإمساك بقرارنا الوطني؟؟..

ـ أين نحن من قدرة إنجاز مبادرة خاصة بنا واستلام زمامها ؟..

ـ وما نفع الكلام : أجمله، وأقواه، وأثوره وأبهاه إن لم تجر في عروقه الدماء ؟؟..

                                                   *****

متغيّرات كثيرة حصلت في العامين السالفين، أغلبها إجباري، وقسري، ونتائجي  نقلت أوضاعنا، في مختلف المجالات، إلى حالة أصعب، هي أزمة فعلاً، حيث تراجعت القضية السورية على مختلف المستويات، وأصبحت مدوّلة تقريباً، واعتلا الصراع المذهبي موج التلاطم والصراع، وعديد المحسوبين على أنهم أصدقاء سورية وضعوها جانباً، أو على رفوف الانتظار، وأنشأوا بدائلاً هي اليوم صلب استراتيجياتهم ومشاريعهم وتوجهاتهم.. ومن خلال ذلك راحوا يبربرون بكلام غير مفهوم، ثم عبر إشارات أوضح عن أفكار وحلول سياسية تنسف ألف باء ثوابت الثورة، وتضع جميع الشعارات، والتضحيات في كيس الأرشفة، والنسيان، والابتلاع، ثم ممارسة ضغوط ناعمة، ومتنوّعة، ومباشرة .. تقول : إما أن تقبلوا بالوجبة التي أعددناها لكم.. وإلا.. أنتم خارج الحسابات والمعادلات.. فيبرز" الواقعيون" يتكلمون عن الضرورات التي تبيح المحظورات، وعن فنّ السياسة، و"خذ وطالب".. والحوار مع النظام بدل المفاوضات، والسكوت على مصير رأس النظام وكبار رموزه من القتلة المجرمين.. وأكثر من ذلك في دعاوي تفتح مصاريع بقاء رأس النظام لزمن، و"تأهيله" من قبل من يريد أن يُخضعنا لموازنة باطلة : النظام أو داعش.. لترجّح كفة النظام..وهكذا ..

ـ حينها يفتحون الكيس لإخراج عدد من السيناريوهات.. بعضها مسبق الصنع، وبعضها ما يزال على قدور الإنضاج، أو الاحتراق وقد يطلقونها دفعة واحدة .. وكأنها نثار محمولات عاصفة هوجاء جمّعت ما اعتلا السطوح ورشقته في وجه البشر ..والحلم السوري بالحرية والكرامة والتغيير .

اليوم تواجه الثورة إشكالات مختلفة تبدو واضحة في تراجع دور وفعل ومساحات وجود الجيش الحر، وفي انخفاض مستوى الأداء السياسي، وما يعانيه الإئتلاف من تركة فعله، وآثار المفاعلات الخارجية فيه درجة الوقوف على حافة الهاوية والإفلاس، والتدهور.. أو التحوّل إلى ظاهرة كلامية يضربها الريح من كل جانب فيذريها ..ينسحب ذلك على الحكومة المؤقتة، ووزارة الدفاع وهيئة الأركان، ومختلف الجهات التابعة للثورة ..

                                                                  ***

اليوم نحن في مواجهة الحقيقة بكل قسوتها، وها هي نتاج السنوات الأربع تصفع الأوهام والرهانات السابقة، وتؤكد الحقائق القاسية التي باتت فعلاً شاملاً يتجاوز حالة داعش وقوى الإرهاب والتشدد التي تطفو على السطح في خندق آخر بعيد عن الثورة، إلى تشتت قوى الثورة وتناثر تمثيلها، مقابل محاولات النظام استعادة زمام المبادرة، والانتقال إلى هجومات متعددة على مناطق الثورة وأماكن قوتها، وفرض حصار ضاغط على عديد المناطق، مستفيداً من، ومستنداً إلى حشود طائفية مليشياوية كثيفة، وإلى تدخّل إيراني يسيطر على القرار السياسي للنظام، والعسكري أيضاً فيما يمكن اعتباره احتلالاً من نوع إشكالي متشابك .

ـ على الصعيد الخارجي الخاص ب"أصدقاء سورية" تتضح السياسة الأمريكية باتجاه مخالف لأهداف ومصالح الشعب السوري، وتفصح بجلاء عن مواقف مناقضة لتوقعات المراهنين، ولما نريد، وهي تضعنا أمام خيارات صعبة : إما الانضواء فيها والتحوّل إلى بيدق، وبيرق فيما يسمى ب"محاربة الإرهاب" وانتظار سنوات ما ستسفر عنه تلك الحرب، وابتلاع الاتفاق مع إيران تحت عنوان النووي، والذي قد يشمل ما هو أبعد، وأخطر : تقاسم النفوذ في بلادنا، وربما رسم خرائط جديدة لسورية وغيرها من البلدان العربية.. وإما رفض تلك السياسة وتحمّل تبعات الرفض.. بينما يستحيل انتهاج سياسة الفهلوية، أو اللعب على الحقائق، أو ما يسمى بالتكتيك المتكتك لأن المطلوب مواقف جلّية لا لبس فيها .

ـ ولأن الثورة السورية أصيلة، ونبت عريق يهدف إلى استقلال بلادنا وإقامة نظام ديمقراطي حقيقي فيه. ولأن الوطنية السورية ستلفظ التبّع، والرخويين، وتضعهم في خانة العملاء، وخونة الدماء والتضحيات.. فلن يكون أمام مؤسسات وتعابير الثورة، وأولها الإئتلاف إن أراد أن يسجل اسمه ممثلاً للثورة، سوى الاتجاه الشامل نحو الجذور، وعوامل القوة : الشعب، والثورة، والعمل الحثيث ضمن برنامج واقعي لبناء معادلة صحيحة، قوامها، وأساسها العوامل الوطنية بكل مفرداتها، وبناء علاقات قوية مع الأشقاء والأصدقاء الذين يتوافقون معنا في الأهداف .

ـ إن "إطلاق الموجة الثانية للثورة" من قبل مجموعات شبانية مؤمنة بها، وواعية لأسباب ابتعاد مساراتها عن وجهتها.. يمكن أن يكون المدخل والعنوان لوضع مجموعة من المشاريع العملية.. في مختلف المجالات، والتي يمكن تكثيفها ب :

1 ـ إصلاح واقع الإئتلاف، وإعادة هيكلته وفق المتطلبات، والقدرات الموجودة، وتجاوز العقل الكيدي، التناحري، الكتلي، الحزبوي، الذاتي، التحاصصي فيه، وتكريس التوافق، والمحاسبة، والشفافية منهجاً، وسبيلاً . وتعميق الوطنية إطاراً جامعاً ينهي المراهنات على الخارج، أو التبعية لهذه الجهة الإقليمية والخارجية أو تلك، ومعها استخدام المال السياسي في شراء الولاءات والأصوات، وفصل من يثبت عليه ذلك .

2 ـ تفعيل وتدعيم الحكومة المؤقتة لتكون جسر التواصل والارتباط مع الداخل، والشعب في مخيمات اللجوء، والهجرة، والتركيز على المشاريع الفعلية التي يمكن توفير مستلزماتها المالية من عديد الجهات والمؤسسات، ومحاربة التبذير، والفساد والفوضى فيها، وفي جميع الجهات التابعة للثورة .

3 ـ إيلاء وزارة الدفاع ورئاسة الأركان، والمجالس العسكرية أهمية خاصة ودعم برنامجها وجهودها في توحيد العمل المسلح وإتباعه لمرجعية سياسية، وفي تأسيس نواة الجيش الوطني على أسس الوطنية، والمهنية، والانضباط، والتراتبية .

4 ـ توحيد العمل الإغاثي، وإتباعه للحكومة عبر صيغة مناسبة .

5 ـ العمل على إحياء، وتنشيط هيئات المجتمع المدني، والأهلي، والثوري .

6 ـ توسيع دائرة المشاركة السياسية بفتح حوارات هادفة مع جميع القوى والفعاليات السياسية السورية ـ عبر لجنة خاصة تتوفر فيها الكفاءات والموضوعية لإجراء تقويم واقعي لتواجدها، وحضورها، وفعاليتها ـ  ثم العمل معها للوصول إلى توافق سياسي عام حول المشتركات التي لخصتها الثورة، وأهمها : إسقاط النظام بكافة رموزه ومرتكزاته، وبناء البديل الديمقراطي التعددي باستخدام كافة الوسائل المؤدية إلى ذلك، وفي مقدمها الحل السياسي الوطني الذي يفرضه ميزان قوى حقيقي لصالح الثورة، وأصدقاء سورية، وهيئات المجتمع الدولي. كما يهدف إلى التحضير لعقد مؤتمر وطني لقوى الثورة والمعارضة في زمن معلوم، يناقش الواقع والتحديات، ويقرّ خريطة طريق للعمل .

7 ـ محاربة التطرف وقوى الإرهاب بكافة تلاوينها وتجسيداتها بدءاً من النظام : أب الإرهاب وحاضنته، ووصولاً إلى داعش وأخواتها، والاتفاق على الأسباب والمفاعلات التي تجعله مستديماً لمواجهتها ببرنامج وطني . وبالوقت نفسه التصدي للظواهر الطائفية التي تريد حرف وتشويه جوهر ومسارات الثورة بالتأكيد على وحدة الشعب السوري بكافة مكوناته وأطيافه.. ضمن سورية الوطن الواحد، الموحد .

8 ـ استنهاض الوطنية السورية العريقة، وتشكيل صندوق قومي يرتكز إلى قدرات السوريين أصحاب رؤوس الأمول، وإلى الجاليات الكبيرة المنتشرة في العالم، وتوفير الشروط والجواذب التي تعيد الثقة بينهم وبين مؤسسات الثورة، وتدفعهم للبذل والانخراط الكامل بها .

9ـ إنجاز الرؤية السياسية بآخر طبعة لها عبر تلك التوافقات، وكذلك الأمر فيما يخصّ المرحلة الانتقالية، والمستلزمات القانوية الناظمة للفترة الراهنة استناداً إلى وثائق القاهرة للمعارضة، والعمل على تطويرها وفق المتغيّرات، وحتى إنجاز دستور عصري للبلاد من قبل هيئات مختصة .