بعد إعلان تطبيع الإمارات… ستبقى فلسطين كاشفة للعورات

«قد بيّن الصبح لذي عينين»، هو مثلٌ معروف عند العرب، يقول الأصمعي: إذا ظهر الأمر الظهور كله حتى لا يستتر منه شيء قيل: قد بيّن الصبح لذي عينين.

لم يكن أمر التطبيع غير الرسمي سرًا خافيًا، فجاءت خطوة إعلان أبوظبي للتطبيع الكامل مع الإسرائيليين لتؤكد المؤكد، فقط لتجعل الأمر بشكل رسمي، وتنهي حالة الجدل حول القضية، وقوبلت الخطوة بالترحاب وبث التهاني من قبل حكومات لها السبق بالتطبيع، وأخرى تتطلع إلى أن تحذو حذوها، فباركت الخطوة لكي تفتح لنفسها الطريق أمام التطبيع.

لماذا يندهش البعض؟ ماذا كنا ننتظر من ذلك النظام الذي سعى لإجهاض ثورات الشعوب، وموّل الانقلابات لوقف المد الديمقراطي الذي يهدد عرش الأسر والقبائل؟ ماذا ننتظر من نظام يسعى بكل قوته لفرض النموذج الأمريكي في المنطقة، ودفْع الأمة باتجاه إمضاء «صفقة القرن»، ضمن إنشاء نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط؟ وماذا ننتظر من نظام أطلق رجاله على مواقع التواصل، يطنطنون ليلا ونهارا حول السلام مع إسرائيل بلد الرقي والازدهار والتحضر، ونسيان الماضي، والرضا بالأمر الواقع من أجل التعايش السلمي مع أبناء العمومة؟ لم نُفاجَأ بهذه الخطوة المنتظرة منذ زمن، كل شيء كان يُمهد لها، حتى الأعمال الدرامية التي تُبث من دبي، وتروج للتطبيع، وتظهر الجوانب الإيجابية لدى إسرائيل، وتدعو إلى عدم وضعها في خانة الأعداء، والادعاء بأن القضية الفلسطينية ضيّعت العرب، كل ذلك من أجل التوطئة للتطبيع الكامل مع الكيان الصهيوني.

كم هي مضحكة تلك العناوين، التي تتداولها الإمارات وحلفاؤها حول خطوة التطبيع، ووصفها باتفاقية سلام، أي سلام؟ وهل كان بين الإمارات والصهاينة عداء؟ هل أطلقت الإمارات طلقة واحدة لتحرير فلسطين من المحتل؟

لكن هذه أيضا لا تثير الدهشة، فهي الدولة نفسها التي تقيم علاقات اقتصادية قوية مع إيران، التي تحتل جزرها الثلاث، فهل ستعادي الكيان الصهيوني من أجل عيون الفلسطينيين؟ كنا نتمنى أن تتم هذه الخطوة من دون المتاجرة بالقضية الفلسطينية، إلا أن النظام الإماراتي حاول ستر سوأته المكشوفة بورقة الاتفاق مع الإسرائيليين، على وقف ضم الأراضي الفلسطينية، لكن يبدو أن أصدقاءه الصهاينة لم يكترثوا بستر هذه العورة، فرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو سئل في مؤتمر صحافي عن وقف ضم الأراضي فأجاب صراحةً: «تلقينا طلبًا بالانتظار مؤقتًا من الرئيس ترامب. إنه تأجيل مؤقت. لم تتم إزالته من على الطاولة، أقول لكم ذلك».

الأمر نفسه أكدته رويترز عن مسؤول إسرائيلي قال، إن خطط ضم أراض من الضفة الغربية يتصورها الفلسطينيون أنها جزء من دولتهم المستقلة، عُلقت مؤقتا فقط. كما أن عضوا في حزب الليكود، الذي يقوده رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو صرح لوسائل إعلام محلية بأن إسرائيل لن تتخلى عن مسألة ضم الأراضي التي كان بنيامين نتنياهو ينوي ضمها.

إذن، قضي الأمر الذي فيه تستفتيان، ولا مجال لصفقة رابحة لصالح الفلسطينيين في تلك الخطوة الإماراتية التي تعتبر خنجرًا يُضاف إلى الخناجر العربية التي غُرست في جسد القضية الفلسطينية، سواء من قبل مصر، أو الأردن، أو غيرها من الحكومات التي سنراها قريبا على المسار ذاته المكشوف، وصدق خضر عدنان القيادي في حركة الجهاد الفلسطينية عندما علّق على هذه الخطوة بقوله «ستبقى فلسطين كاشفة العورات»، حقًا، القضية الفلسطينية تكشف العدو والصديق، تكشف المتاجرين بها والمتفانين في نصرتها.

«سيكون هناك المزيد من الدول العربية التي تنضم إلى السلام. نحن جبهة واحدة ضد العناصر المتطرفة التي تهددنا وتهدد سلام العالم»، من حق نتنياهو قائل هذه العبارة أن يكون متفائلا إلى هذا الحد، فالنظامان الأردني والمصري اللذان لهما السبق في هذا المضمار قد باركا هذه الخطوة، ووصفاها باتفاقية السلام، فقد سبقت الدولتان الإمارات إلى هذه الخطوة، إضافة إلى سعيهما لإمضاء صفقة القرن، التي تنهي القضية الفلسطينية على مبدأ فرض الأمر الواقع. دول أخرى كالبحرين وموريتانيا، هنأت الإمارات وقيادتها الحكيمة على هذا الاتفاق التاريخي، في ما يبدو أنه توطئة من هذه الدول للسير في الاتجاه ذاته.

كالعادة بالتزامن مع أي قرار سياسي مثير للجدل، يخرج الدجالون المنتسبون إلى العلم الشرعي لتبرير القرار وشرعنته، ويتحدثون عن السلام مع اليهود باعتبارهم أهل كتاب، وأن النبي محمدا صلى الله عليه وسلم قد عقد معهم معاهدة في المدينة المنورة. وهذا لا شك من الجدل، فالعداء حتما ليس مع اليهود كديانة، والإسلام كما هو معلوم أباح التزاوج والتجارة وسائر أنواع المعاملات معهم، وأباح طعامهم، وعصم دماءهم طالما كانوا مسالمين، لا محاربين، وإنما العداء مع الصهاينة الذين احتلوا فلسطين الحبيبة قلب الأمة النابض، وهجّروا أهلها، وسفكوا دماء شبابها وأطفالها ونسائها، واعتقلوا الحرائر، وسرقوا الأرض وخيراتها، فيأتي هؤلاء الدجالون ليصوروا القضية على أنها سلام مع اليهود، لإضفاء الصبغة الدينية على القرار السياسي الداعر. والله إني لأراها بشارة، أنْ تَعَرّى هؤلاء القوم وأشاروا دون مواربة إلى مواقعهم وخنادقهم، فإن تحرير فلسطين لن يكون إلا بعد هذا التمايز ووضوح الراية، فقد خذل المنافقون فلسطين عام 1948، وخذلوها في كامب ديفيد، ووادي عربة، وأوسلو، كان كل منهم يرفع شعار الدفاع عن القضية الفلسطينية، وهم يقبضون الثمن من تحت الطاولة.

وإني لأستعير تعليق لاعب الكرة الخلوق الذي عرفه العالم بقميصه الذي كتب عليه في إحدى المباريات «تعاطفا مع غزة»، اللاعب محمد أبو تريكة المغضوب عليه من قِبل النظام المصري وإعلامه، حيث قال: «قضية فلسطين قضية وعي شعوب، لا اتفاقات حكام أو معاهدات دول».

ونعم، فليبرموا معاهدات التطبيع مع الصهاينة، فليظهروا تخلِّيهم عن القضية الفلسطينية كيفما شاؤوا، فإن التعويل بعد حول الله تعالى على الشعوب التي لم تستسلم لمحاولات تسطيح القضية الفلسطينية في نفوسهم، بفعل المنابر الإعلامية للأنظمة الموالية للكيان الصهيوني.

التعويل على الفلسطينيين أنفسهم، الذين لا تخبو فيهم جذوة المقاومة لتحرير الأرض، وعلى الفصائل الفلسطينية أن تقطع الطمع في التماس الحلول، والإسناد لدى الحكومات العربية، وتتناسى الخلافات في ما بينها وتقدم مصلحة الوطن.

فمهمتنا أن تبقى القضية الفلسطينية حية في وجدان الجماهير، وكشْف كل محاولات التطبيع الجماهيري مع الاحتلال، وفضح الأبواق الإعلامية التي تروج لهذه الجريمة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وسوم: العدد 890