القرآن الكريم ... وأثره في تقويم سيرة الفرد والمجتمع

لقد غيَّر الإسلام من خلال القرآن الكريم والسُّنة النبوية المطهرة حياة عرب الجاهلية ، فجمعهم بعد تناحر ، وهداهم بعد ضلال ، وقوَّاهم بعد ضعف ، وأرشدهم بعد حيرة وعمى ، وقوَّم مسيرة حياتهم على نور وبصيرة من كتاب الله تبارك وتعالى ، ووجَّه قواهم الروحية والمادية إلى مافيه خيرهم وخير البشرية جمعاء ، فكانوا بإيمانهم وأخلاقهم ومعاملاتهم وتوادهم وتراحمهم خير أمة أُخرجت للناس .

ولايمكن لمقال مقتضب ... أن يحيط ولو بجزء من فصل واحد من الأبواب والفصول التي تزخر بها آلاف المؤلفات وهي تتحدث عمَّا في القرآن العظيم من عبادات وآداب وعلوم ومفاهيم ... أحيت الطاقات الإنسانية الهائلة في صدور المسلمين ، وعالجت الأهواء ، وعدَّلت الأمزجة ،وداوت الأمراض الحسية والمعنوية ، وحرَّرت الإنسان من الخوف من غير الله ، ودفعته إلى الزهد في هذه الحياة الفانية ، لكيلا يتعلق قلبُه بزينتها البرَّاقة ، وزخرفها الزائل ،حيث جاءت الآيات القرآنية بأسباب الرفعة والارتقاء إلى عوالم الملأ الأعلى ، وبالدعوة إلى التفكر والتدبر والانطلاق نحو بناء المجتمع الفاضل .

وشدَّدت آيات الكتاب المبين على إحياء روح الفطرة الصافية النقيَّة ، لأنها أساس التغيير الذي يخرج بالفرد من ظلمة الأهواء والرغبات إلى أنوار المسؤولية الجادة ، لبناء سيرة حميدة ، تؤهله لنيل رضوان الله تبارك وتعالى . فالنفس أمارة بالسوء ، صديقة للشهوات والملذات ، قريبة من دعوة الشيطان لِما يسرها وهي غافلة عن العاقبة المشؤومة التي تنتظرها عند الله تعالى . والنفس المؤمنة مطمئنة لما عند الله من وعد كريم ، ومطمئنة لِما أصابها من ضُـرٍّ ، والفرق بين هاتين النفسين بعيد ، ومن هنا كان التغيير الذي شمل كلَّ مَن آمن بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، الذي لاينطق عن الهوى ، والذي كان خُلُقًه القرآن ، في قصةجابر بن سليم رضي الله عنه مصداق ذلك . حيث قال : رأيتُ رجلا يصدر الناسُ عن رأيه ، لايقول شيئا إلا صدروا عنه . قلتُ : مَن هذا ؟ قالوا : رسول الله صلى الله عليه وسلم . قلتُ : عليك السلامُ يارسول الله ــ مرتين ــ قال : ( لاتقل عليك السلام ، عليك السلام تحية الموتى . قل : السلام عليك ) قال : قلتُ : أنت رسول الله ؟ قال : ( أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضرٌّ فدعوته كشفه عنك ، وإذا أصابك عام سنة ( أي عام قحط و شدة ومجاعة) فدعوته أنبتها لك ،وإذا كنت بأرض قفر أو فلاة فضلَّت راحلتك فدعوتَه ردَّها عليك ) قال : قلتُ : اعهَدْ إليَّ ( أي أوصِ لي ) قال : لاتسبنَّ أحدا ) قال : فما سببتُ بعده حرا ولا عبدا ولا بعيرا ولا شاة . قال : ( ولا تحقرَنَّ من المعروف شيئا ،وأن تكلِّمَ أخاك وأنت منبسط إليه وجهُك ، إن ذلك من المعروف ، وارفع إزارك إلى نصف الساق ، فإن أبيتَ فإلى الكعبين ، وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة ، وإنَّ الله لايحب المخيلة ، وإن امرؤ شتمك أو عيَّرك بما يعلم فيك فلا تعيِّرْه بما تعلم فيه ، فإنما وبال ذلك عليه) رواه أبو داود والترمذي .

هذه قصة تبيِّن كيف كان تقويم النفس ، وتغيير ماكانت عليه ، والقصص القرآني والنبوي حافل بالقيم والمآثر ، وتدعمه قوة التأثير ، وجزالة الأسلوب ،والإعجاز في الأداء ، والقصص إحدى وسائل التربية والتعليم ، إضافة إلى مافيها من عبر وسير ومقاصد لاتُحصَى ، وهنا نرى كيف ترجم هذا الصحابي الجليل ماسمعه من نصائح وإرشادات إلى سيرة أعمال مباركة في حياته ، يقول تعالى : ( وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم )215/البقرة ، ويقول عزَّ وجلَّ : ( مَن عمل صالحا فلنفسه ، ومن أساء فعليها )15 / الجاثية . ولقد جاء الإسلام بمكارم الأخلاق وجليل المزايا من الحلم والرفق والصدق والمودة والأخوة والتسامح وطلاقة الوجه وغيرها من السجايا ، ونهى الإسلام عن رذائل الأعمال ومذموم الصفات من الكذب والكبر والبغي والغيبة والنميمة والاعتداء وغيرها من القبائح التي تنافي الفطرة التي فطر اللهُ الناسَ عليها ، وكلا النوعين من هذه الصفات يعرفها الناس ولا يجهلها منهم أحد . وإن تقويم سيرة الفرد تعني إكسابه المزايا الكريمة وتحثه على العمل المنتج ، وتدفعه إلى تفعيل عقله ، والتحليق في عالم الروح والمناجاة لله سبحانه ، فينأى عن الصفات الأخرى ، بل عن الأمراض الأخرى التي يعاني من شرها الناس ، وقراءة القرآن الكريم ، والإنصات إليه ، وتدبر آياته ... فيها رحمة وشفاء من العلل والأمراض النفسية وقد أثبت العلم اليوم ذلك ، ففي الكثير من الكتب العلمية القديمة والحديثة ، والعديد من المواقع الألكترونية التي تُعنى بمثل هذه الأمور ومنها نقلنا هذا النص : (سماع القرآن الكريم وأثره على المسلم وغير المسلم ، فقدأثبتت دراسة علمية نشرت أن سماع الإنسان للقرآن الكريم يعمل على تنشيط الجهاز المناعي سواء كان المستمع مسلما أو غير مسلم .

وأشارت الدراسة التي أجريت عن كيفية تنشيط جهاز المناعة بالجسم للتخلص من أخطر الأمراض المستعصية والمزمنة ، إلى أن 79% ممن أجريت عليهم تجربة سماع القرآن سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين ويعرفون العربية أو لايعرفونها ظهرت عليهم تغيرات تدل على تخفيف درجة التوتر العصبي التلقائي .وذكرت الدراسة التي نشرتها هيئة المستحضرات الطبية واللقاحات ، أنه أمكن تسجيل ذلك كله بأحدث الأجهزة العلمية وأدقها مما يدل على أن التوتر يؤدي إلى نقص مستوى المناعة في الجسم من خلال إفراز بعض المواد داخل الجسم ، أو ربما حدوث ردود فعل بين الجهاز العصبي والتوازن الوظيفي الداخلي في الجسم . وأوضحت أن أثر القرآن المهدئ للتوتر يؤدي إلى تنشيط وظائف المناعة لمقاومة الأمراض والشفاء منها ، مشيرة إلى أن الدراسة أجريت (210 ) مرات على متطوعين أصحاء تتراوح أعمارهم بين 17/40 سنة وكانوا من غير المسلمين خلال 24 جلسة علاجية، وأكدت أن النتائج كانت إيجابية نظرا للأثر المهدئ للقرآن على التوتر بنسبة 65% ، ,هذا الأثر المهدئ له تأثير علاجي ، حيث أنه يرفع كفاءة الجهاز المناعي ويزيد من تكوين الأجسام المضادة في الدم ) .

ما أجلها من وظيفة أكرم الله بها عباده ، فيها بعض أسرار القرآن الكريم ، الدالة على كرم الله تعالى ورحمته بعباده ، وفيها أسباب يقظة النفس ، وصحوة الضمير ، وتألق العقل ، والانقياد لأوامر الخالق العظيم . في تغيير السلوك وإتاحة النشاط الإنساني المثمر لدى قارئ القرآن وسامعه مع الإنصات والتَّدبُّر ، وما يكون للفرد يكون للأمة أيضا وهل الأمة إلا مجموعة من الأفراد والأسر ، فإذا ماكان للمجتمع صلة وثيقة بالقرآن العظيم تلاوة وتدبرا وعملا ، فلا بدَّ من تغيير إيجابي في سلوك المجتمع ، لتسود المودة والتراحم والإخاء ، وتزول الأحقاد والأضغان ، وترحل أسباب الفساد ،ويسعد المجتمع بالطمأنينة في حياته ، ولقد ضرب المجتمع الإسلامي الفاضل أروع وأسمى الأمثلة في السجايا وفي السلوك وفي التطبيق .رأى الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه شيخا ضريرا يسأل على باب ( يطلب المعونة لفقره ) فسأل ، فعلم أنه يهودي ، فقال له : ما ألجأك إلى ما أرى ؟ قال : الجزية والحاجة والسن . فأخذه عمر بيده ، وذهب به إلى منزله ، فأعطاه مايكفيه ساعتها ، وأرسل إلى خازن بيت مال المسلمين ، فقال له : انظر هذا وضرباءَه ، فوالله ما أنصفناه ... أن أكلنا شبيبته ، ثم أخزيناه عند الهرم ، إنما الصدقات للفقراء والمساكين ، وهذا من مساكين أهل الكتاب .

إنها أخلاق الإسلام ، وإنه هَدْيُ القرآن العظيم ، تمثَّل به أمير المؤمنين وتمثل به كل مسلم ومسلمة ، وتمثل به أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه ، وكان قائدا لجيش عمر رضي الله عنه أثناء خلافته ، عندما كتب له :( إنَّ عبدا أمَّن أهل بلد في العراق ، وسأله رأيه . فكتب إليه عمر رضي الله عنه : إنَّ الله عظَّم الوفاء ،فلا تكونون أوفياء حتى تفوا ، فوفوا لهم ، وانصرفوا عنهم ). إنها التربية القرآنية المتفردة في معاملتها ، وفي تطبيق مثلها وقيمها ، وما كان قولا مكتوبا في الصحف ، كان لديهم سلوكا له أثره في حياة الناس وتعاملهم . لقد أوصى الخليفة أبوبكر الصديق رضي الله عنه جندَه فقال : ( ستجدون قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله ، فدعوهم وما حبسوا أنفسهم له ،ولا تقتلُّنَّ امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما ) وفي وصية أخرى : ( ولا تقطعنَّ شجرا ، ولاتخربنَّ عامرا ) ، وهذه أوامر نافذة لامجال للاجتهاد فيها ، إنها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية باتت سلوكا للمجتمع الإسلامي الفاضل .إنها صناعة القرآن الكريم للإنسان .ولقد أحسن مَن قال : ( إن الأخلاق في الإسلام لا تقوم على نظريات مذهبية ، ولا مصالح فردية ، ولا عوامل بيئية تتبدل وتتلون تبعا لها ، وإنما هي فيض من ينبوع الإيمان يشع نورها داخل النفس وخارجها ، فليس الأخلاق فضائل منفصلة ، وإنما هي حلقات متصلة في سلسلة واحدة ، عقيدته أخلاق ، وشريعته أخلاق ، لا يخرق المسلم إحداها إلا أحدث خرقا في إيمانه .يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : « لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يسرق السارق وهو مؤمن »وسئل صلى الله عليه وسلم : « أيكذب المؤمن ؟ قال : (لا) ثم تلا قوله تعالى : ( إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ) فالأخلاق دليل الإسلام وترجمته العملية ، وكلما كان الإيمان قويا أثمر خلقا قويا .إن الأخلاق هي جوهر الرسالات السماوية على الإطلاق فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول :( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) فالغرض من بعثته صلى الله عليه وسلم هو إتمام الأخلاق ، والعمل على تقويمها ، وإشاعة مكارمها ، بل الهدف من كل الرسالات هدف أخلاقي ، والدين نفسه هو حسن الخلق والخلق نوعان :

أ- خلق حسن : وهو الأدب والفضيلة وتنتج عنه أقوال وأفعال جميلة عقلا وشرعا .

ب- خلق سيئ : وهو سوء الأدب والرذيلة وتنتج عنه أقوال وأفعال قبيحة عقلا وشرعا .

ولقد جاءت دعوته صلى الله عليه وسلم إلى فضائل الأخلاق سامية زاكية فقد روي عن أسامة بن شريك قال :« كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم كأنما على رؤوسنا الطير ، ما يتكلم منا متكلم ، إذ جاءه أناس فقالوا : من أحب عباد الله تعالى ؟ قال : (أحسنهم خلقا ) »وحسن الخلق من أكثر الوسائل وأفضلها إيصالا للمرء للفوز بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والظفر بقربه يوم القيامة حيث يقول :( إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا ) .كما أن الأخلاق في الإسلام ليست لونا من الترف يمكن الاستغناء عنه عند اختلاف البيئة ، وليست ثوبا يرتديه الإنسان لموقف ثم ينزعه متى يشاء ، بل إنها ثوابت شأنها شأن الأفلاك والمدارات التي تتحرك فيها الكواكب لا تتغير بتغير الزمان لأنها الفطرة يقول تعالى: ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) 30/ الروم .