الرئيس المهزوم .. والحضارة المأزومة

لقد أيقنَ الرئيسُ الفرنسي "ماكرون" أنَّه مأزومٌ ومهزومٌ في كلِّ مساعيه، وأدركَ أنَّ الأزمات حاصرته من كل الاتجاهات، والفشل أحاط بهِ من كل جانب، وأراد أن يتهرب من الوعود التي قطعها على نفسه أثناء حملته الانتخابية؛ فلم يجد أمامه سوى "دِين الله" ليتّهمه بالمأزوم!

فقال في خطابهِ المتهافت: "الإسلام أصبح ديانة تعيش في الوقت الراهن أزمة في كل مكان في العالَم»! ثمَّ اتَّهمَ المسلمين في فرنسا بتبنِّي نزعات انفصالية وب"الالتفاف على قوانين الجمهورية، وإقامة نظام مُوازٍ يقوم على قِيَم مُغايرة، وتطوير ترتيب مختلف للمجتمع"!

ولمْ يَقُل لنا ما هي تلك "الأزمة" التي يعيشها دِينُ الله "الإسلام"؟! ولمْ يشرح لنا ما هيَ مظاهر النزعات الانفصالية التي تتبنّاها الجالية المسلِمة في فرنسا؟!!

لقد مَلَلْنا أشدّ المَلَل مِن "ماكرون" وأمثالهِ مِن القادة والمسؤولين الغربيين الذين أعمتْ بصائرهم العنصريّة البغيضة، ولم يستطيعوا التخلُّص من ظلام العصور الوسطى وضبابها، ولم يستطيعوا بعد أن يتعافوا من هزائم الحروب الصليبيّة!

إنّنا لسنا في حاجةٍ إلى الدفاع عن "الإسلام" دين الإنسانية، وعنوان التسامح، ومفتاح الحضارة –كما وصفه الأمير/ تشارلز –وليّ عهد بريطانيا- وغيره من عظماء الغرب وعباقرته!

إنما الذي نُريده مِن "ماكرون" المأزوم نفسياً وحضارياً: أنْ يَحترم العقل والمنطق، ويُكلِّف نفسه قليلاً، ويقرأ شيئاً مِمَّا كتبه الفلاسفة والمؤرّخون الفرنسيّون المشاهير عن "الإسلام"، ومدى حاجة البشرية إليه ... حتى يتبيّنَ له ولغيرهِ مَن هو المأزوم والمهزوم الحقيقي؟!

* * *

"ماكرون" يعلم يقيناً أنَّ فرنسا -ومعها العالَم الغربي- خرجتْ مِن "القرن العشرين" خروجاً عسيراً، أشبه ما يكون بولادةٍ قيصريّة عسيرة، بعدما أثقلتها الحضارة المادية المتوحِّشة بحروب وأزمات وكوارث، وشرور مستطيرة!

لقد خرج الغربُ تائهاً مرعوباً ومُكفهِراً، يبحث عن مخرجٍ مِن ظلمات الفلسفات، ونَفَق المذاهب والأيديولوجيات التي أوصلته إلى حافة الهاوية ... ومازال الغربُ تائهاً يتململ ذات اليمين وذات الشمال؛ باحثاً عن شاطئ السلامة!

ويبدو أنه ستطول بهِ رحلة البحث؛ ما لمْ يلتمس هداية الإسلام ونور الإيمان، فخلاص النوع الإنساني لا يتأتَّى بغير عقيدةٍ روحيةٍ صالحةٍ لتوحيد الناس في نظامٍ واحد، يتكفل بحاجات الضمائر والأجساد ... ولمْ تفلح الأوهام الصليبيّة، ولا المذاهب الوضعية، ولا المعتقدات الزائفة؛ في إحياء هذه العاطفة الروحية، لأنها انحرفتْ عن الطريق الصحيح. ومَن يبحث الآن عن شيء نافع فيها؛ أشبه بمن يبحث عن إبرةٍ صغيرة وسط كُثبانٍ رمليةٍ مترامية الأطراف!

إنَّ (الإسلام) وحده القادر على انتشال العالَم مِمَّا أصابه ... فالإسلام دِينٌ عالمي، لمْ يأتِ لإنقاذ قطيعٍ من الخراف الشاردة، ولا يتجاوب فقط مع متطلبات الحياة في أوسع معانيها، بلْ مع المشاعر الوجدانيّة للفرد في بحثها عن الذات الإلهية، وهو لا يُقدِّم تصوراً مُنزَّهاً عن الآفاق فيما وراء الطبيعة فحسب، بلْ يقدِّم –أيضاً- قواعد رفيعةً وشاملة للعلاقات الفردية والاجتماعية، ونظاماً اقتصادياً سليماً، ومذاهب سياسية عادلة وعملية، إلى غير ذلك من شئون الحياة ومتطلباتها. فالإسلام نظام كوني شامل متكامل، يضم بين جنباته قواعد كلية، ونوراً يَهتدي به الكلُّ في دروب الحياة ومناحيها.

إنَّ (الإسلام) ليس دين طبقةٍ خاصة بذاتها، ولا هو دِين أُمّةٍ واحدةٍ بعينها، ولكنه دِين الإنسانية كلها ودِين بني البشر جميعاً مِن كل جنسٍ ولون، وفيه معاني الوحدة والتوحيد، والأُخوة الإنسانية المشتركة، وقد أكدَّ مشاهير المفكرين الغربيين، وعلى رأسهم: نولدكه، وجولد زيهر، وأرنولد توينبي، وغيرهم؛ أنَّ الله أراد لدين الإسلام منذ فجر الدعوة أنْ يكون دِيناً عالمياً، وليس عقيدةً وطنيةً محلية، وقد أشارت التوراةُ والأناجيل وأسفار الأنبياء إلى عالمية الرسالة الخاتمة، لتشمل سائر الشعوب والأُمم، ففي (الإصحاح 28: إشعياء) نجد خطاباً صريحاً للنبيّ الأُميّ: (إنِّي أقمتكَ شاهداً للشعوب، ومدبّراً وسلطاناً للأُمم، لتدعو الأُمم الذين لم تعرفهم، وتأتيكَ الأُمم الذين لم يعرفوك هرولة وسِراعاً، فاطلبوا ما عند الربّ، فإذا عرفتموه فاستجيبوا له ...). ومدحه ربُّه في (الإصحاح 42: إشعياء) قائلاً: (أنا الربُّ قد دعوتكَ بالبر. فأمسكُ بيدكَ وأحفظكَ. وأجعلكَ عهداً للشعوب ونوراً للأُمم. لتفتح عيونَ العُمْي لتُخرِج مِن الحبس المأسورين القابعين في الظلمة..).

وإذا نظرنا في القرآن الكريم؛ نجد هناك أكثر من أربعين آيةً تؤكد أنَّ النبيَّ الخاتمe قد أُرسِل إلى الناس كافة، وأنَّ القرآنَ قد تنزَّل عليه ليقرأه على الناس؛ ففي أول سورة الفرقان: ]تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً[.

* * *

أقول: لسنا بحاجة إلى الردّ على "ماكرون" وأمثاله من المأزومين والمهزومين حضارياً .... بحسب أن ندعوه ليقرأ ما كتبه عظماء فرنسا وعباقرتها عن عالمية الإسلام وما قدَّمه للإنسانية من عطاء في مختلف الميادين؛ حتى يتبيّنَ له الصدق مِن الكذب، وحتى يُميّز بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال!

أجَل؛ إذا أراد "ماكرون" وغيره من الزعماء الغربيين أن يقفوا على حقيقة الإسلام؛ فليسألوا فلاسفتهم، ليعرفوا منهم ما الذي توصَّلوا إليه بعد عنائهم في البحث والاطلاع؟

إنَّ هؤلاء "العباقرة" الذين نستشهِد بآرائهم، وننقِل كلامهم؛ الذي سجَّلوه في مؤلفاتهم ومذكّراتهم، سواءً كانوا من الفلاسفة أوْ المؤرخين أوْ المستشرقين؛ هم من مفاخر فرنسا وساستها؛ الذين يتباهونَ بتاريخهم ومؤلفاتهم.

فاستمع –مثلاً- إلى ما أفصح بهِ "نابليون" في مذكّراته عن إعجابه بالتشريع الإسلامي، فكتب في الباب الرابع من رسائله، يقول (أرجو ألاَّ يكون قد فات الوقت الذي أستطيع فيه أن أُوحِّد جميع الرجال العاقلين والمثقفين في الدولة، وأنْ أُنشئ نظام حكم متناسق، مؤسّس على مبادئ القرآن، التي هي وحدها الصادقة، والتي يمكنها أن تقود الناس إلى السعادة، بعيداً عن (المسيحية) التي تبشِّر فقط بالعبودية والتبعية...).

هذا؛ ويرى الفيلسوف والشاعر الفرنسي/ ألفونس دي لا مارتين Lamartinn (1869-1790): "أنَّ الإسلام فتح العقول والقلوب قبل أن يفتح الدول وينشئ الإمبراطوريات .. وأنه عقيدة صادقة تُحرِّر الإنسانية من الظلم والهوان، وإنه حُجّةٌ قائمة حطّمت آلهة كاذبة، ونكَّست معبودات باطلة، وفتحت طريقاً جديداً للفكر في أحوال الناس، ومهَّدت سبيلاً للنظر في شؤونهم، فهو فاتح أقطار الفكْر، ورائد الإنسان إلى العقل، وناشر العقائد المحررة للإنسان ومؤسّس دين لا وثنية فيه".

ويؤكد الفيلسوف الفرنسي/ فانسان مونتيه F.Moantia–الأستاذ بالسوربون، ومترجم "مقدمة ابن خلدون" إلى الفرنسية، وصاحب المؤلفات الشهيرة، منها: "مفاتيح الفكر العربي" و"الإرهاب الصهيوني"، و"المسلمون في الاتحاد السوفيتي"، و"الإسلام في أفريقيا"، يقول "إنَّ الإسلام يُسجِّل أمام التاريخ أنه أول نظام في تاريخ البشرية ناهض الاسترقاق، وحارب المتاجرة بالبشر، بلْ إنه جعل كثيراً من الكفَّارات للذنوب التي يقدم عليها المرء هو تحرير الرقاب الذي عَدَّه الإسلام تقرباً وطاعة لله، وأنّ مُحمّداً أول مَن حرَّر العبيد، وأنه رسول الحرية بلا منازع ... بلْ إنَّ كل شيءٍ جاء به الإسلام؛ يؤكد على عظمة مُحمَّد ويشهد بصدق نبوّته، وأنه مبعوث من عند الله، فمن المستحيل أن تكون كل هذه الحِكَم والوصايا والأوامر والنواهي منسوبة إلى أحدٍ من البشر العاديين، إلاَّ أن يكون نبياً كريماً مِن عند الله".

ويرى الفيلسوف الفرنسي وولتر Walter "أنَّ السُّنَن التي أتي بها الإسلام كانت كلها قاهرةً للنفس ومهذبةً لها، وجمالها جلب للدين الإسلامي غاية الإعجاب ومنتهى الإجلال، ولهذا أسلمتْ شعوبٌ عديدة من أُمم الأرض، حتى زنوج إفريقيا، وسكَّان جزر المحيط الهندي".

ومِن جانبه؛ يقول الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي/ هنري بولا نفلييه H.Boulainvillier (1658-1722) في كتابه "حياة مُحمَّد": "الإسلام رسالة الله التي قضى بها على العبادة الباطلة، وأحلَّ محلها العبادة الحقة ... ولولاه ما عرف أحد الله ومجَّده كما يليق به".

ويرى جان جاك روسو Jean Jacques Rousseau -فيلسوف الثورة الفرنسية الشهير، وصاحب "العقد الاجتماعي"- يقول عن نبيّ الإسلام: "لمْ يرَ العالَمُ حتى اليوم دِيناً استطاع أن يحوِّل العقول والقلوب من عبادة الأصنام إلى عبادة الإله الواحد إلاَّ الإسلام، ولوْ لم يكون ديناً صادقاً متكاملاً، ما صدَّقه الناس وآمنوا به، فبذلك انتشر الإسلام في ربوع الأرض، وبالقرآن انتصر المسلمون، وفتحوا الممالك، وسادوا العالَم".

هذا؛ ويقول الفيلسوف الفرنسي "جوستاف لوبون" G.Lebon (1841-1931) صاحب كتاب ( (الحياة) الذي يقول فيه: "إنَّ الإسلام دينٌ حكيم عظيم، امتاز بالرحابة الفسيحة، إزاء أهل الذمة، وحرَّر بلاداً واسعة من الروم والفرس، وترك أهلها في طليعة الأُمم".

وفي كتابه "حضارة العرب" يقول جوستاف لوبون: "إذا ما قيستْ قيمة الرجال بجليل أعمالهم؛ كان مُحمَّد مِن أعظم مَن عرفهم التاريخ؛ فقد كان يقابل ضروب الأذى والتعذيب بسعة الصدر، وكان صبوراً قادراً على احتمال المشاق، ثابتاً بعيد الهمّة، ليِّن الطبع وديعاً، وكان عظيم الفطنة".

وقد استهلَّ الفيلسوف/ رينيه غينيو R. Jinyu كتابه (رسول الدنيا World Prophet) بقوله: "لقد أردتُ أن أستعصم بنصٍ إلهيٍّ مقدّس لا يأتيه الباطل, فلم أجد بعد الدراسة الطويلة المضنية سوى القرآن الكريم, فهو الكتاب الوحيد الذي أقنعني وأمَّنَ على ما في قلبي .. ورسول الإسلام هو الرسول الذي أحببته، وسعدتُ بالسيْر تحت لوائه, وغمرتني أقواله وأفعاله بالسعادة النفسية والسكينة الروحية. ولولاه e لغرقتْ الإنسانيةُ في بحار المادية والإلحاد، والدمار الروحي".

ولعلَّ شهادة المسيو (هنري دو كاستري Hemry de Castries) أحد حكام الجزائر السابقين- كافية للرد على أية مزاعم من هنا أو هناك، حيث يقول في كتابه (الإسلام- تأثرات ودراسات L, Islam, Impressions et Etudes): "إن أتباع مُحمّد هم وحدهم الذين جمعوا بين محاسنة الأجانب، ومحبة انتشار دينهم. هذه العاطفة التي دفعتهم في سبيل الفتح، ولم يتركوا أثراً للعسف في طريقهم...". ثمَّ قارن المسيو (هنري دو كاستري) بين هذه الرحمة والعطف من جانب الإسلام، وبين الشدة والروح الحربية في الأديان التي تقدمته، فنقل عن الزبور قوله: (إذا اقتربتَ من مدينة لتحاصرها فاعرِض عليها الإيمان، فإنْ قبلته فقد سلم كل من فيها، وإنْ أبتْ فشدَّدَ الحصار عليها، ومتى وفَّقك الربُّ للظفر بها فاحطم رأس كل ذَكرٍ فيها بحد الحسام)!

ثمَّ قال المسيو (دو كاستري): "فكان من وراء محاسنة المسلمين للأُمم المقهورة أنْ انتشر الإسلام بسرعة، وعلا قدر رجاله الفاتحين، لِمَا سبقه من ظلم أباطرة المملكة الرومانية التي أبغضها الناس، وكرهوا الحياة في ظلها. هذا وإذا انتقلنا من الفتح الأول للإسلام إلى حين استقراره، رأيناه أكثر محاسنة، وأكرم معاملة لمسيحيي الشرق كله، فما عارض العربُ أبداً شعائر الدين المسيحي، بلْ بقيتْ رومية نفسها حرة في مراسلة الأساقفة في مختلف البلاد الإسلامية ... وهذه المحاسنة العظيمة من جانب المنتصِر للمقهور؛ هي التي أضعفت تأثير الديانة النصرانية جداً، ثم زالت بالمرة من شمال أفريقيا. على أن الإسلام لم يُكرِه أحداً بالسيف ولا باللسان، بلْ دخل القلوب على حب واختيار، وكان هذا من آثار ما أُودِع في القرآن من صفات التأثير والأخذ بالألباب ... ولقد زادت محاسنة المسلمين للمسيحيين في بلاد الأندلس حتى صاروا في حالة أهنأ من التي كانوا عليها أيام خضوعهم لحكم الجرمانيين".

إنَّ الإسلام دِين يتباهى به الكونُ كله، لأنه منهج الله القويم، والنور المبين، والمخرج الحقيقي من الظلمات إلى النور –كما يقول الفيلسوف الفرنسي/ روجيه جارودي Roger Garaudy في كتابه الشهير (ما يَعِد بهِ الإسلام Promesses De L'Islam)!

هذا قليل من كثير من شهادات الفلاسفة الفرنسيي؛ الذين أبتْ ضمائرهم إخفاء الحقيقة، أوْ كتمان الشهادة، في ظلِّ أجواءٍ استترت فيها الضمائر، وتلبّدتْ بضباب الاستشراق والتبشير والاستعمار ... مع إيماننا أنَّ الإسلام نور الله من الأزل إلى الأبد، فلا يحتاج إلى شهادةٍ مِن فيلسوف أوْ مستشرِق أوْ مستغرِب!

أخيراً؛ فإننا ندعو "ماكرون" وغيره من العنصريين المفترين؛ أن يستعيدوا بعضاً من ذاكرتهم التاريخية، ويُفكِّروا فيما اقترفه أسلافهم خلال الحروب الصليبية، ومحاكم التفتيش المروِّعة، ويُفكّروا في ضحايا الحربيْن العالميتيْن الذين بلغ عددهم 78 مليون من البشر منهم 44 مليون مدني، أولئك الذين أُبيدوا بأبشع أنواع الأسلحة، وما اقترفوه في الجزائر، وغيرها من المجازر البشرية ... ولا أُريد أن أفيض في الحديث مِن حيثُ أفاضَ الناس!

وسوم: العدد 897