المواجهات بين أرمينيا وأذربيجان: تكرار السيناريو الفلسطيني

لا شيء أسوأ من الظلم إلا تبريره والسكوت عنه، والاصطفاف مع الظالم والمعتدي، بناء على مواقف مسبقة لا علاقة لها بالحق والباطل. فالوقوف مع أرمينيا المعتدية والمحتلة لخمس أراضي أذربيجان منذ عام 1993 هو وقوف مع الباطل، ومع المحتل، ومع الظلم ومع العدوان. إنه أشبه بالوقوف مع الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين ولبنان والجولان السوري، والوقوف مع الهند ضد الشعب الكشميري، والوقوف مع مجرمي الحرب في ميانمار ضد الروهينجا. لا توجد منطقة وسطى بين الحق والباطل والعدالة والظلم والعبودية والحرية والاحتلال والتحرير.

الوقوف مع أذربيجان ضد العدوان الأرميني، ليس له علاقة بموقف عنصري ديني، أو تعصب للمسلم ضد غير المسلم، ولا علاقة له بتأييد رجب طيب أردوغان، أو معارضته، ولا علاقة له بالاصطفاف خلف روسيا ظالمة أو مظلومة. إن مسؤولية المثقف دائما وأبدا، أن يقف مع الحق ضد الباطل، ومع المظلوم ضد الظالم، ومع الذي احتلت أرضهم وطردوا منها ضد الذين احتلوها وأداروا ظهورهم للقانون الدولي، ولم يصغوا لقرارات مجلس الأمن الأربعة التي صدرت أثناء العدوان على إقليم ناغورنو كراباخ.

هناك دول عربية، من بينها الإمارات والسعودية، تقف مع أرمينيا، نكاية في تركيا، كما وقفت مع حكام ميانمار، الذين ارتكبوا المجازر المروعة ضد الروهينجا، ووقفوا مع نارندرا مودي، بعد إلغائه الوضع الخاص بكشمير، ثم استقبلوه في بلاطهم وقدموا له الأوسمة والمكافآت والاستثمارات الكبيرة، والآن يقفون مع الكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني وآخرهم بندر بن سلطان. إيران ظلت تقف مع أرمينيا ضد أذربيجان، لكن بيان علي أكبر ولايتي مستشار المرشد الإيراني، حمل تغييرا جذريا نريد أن نصدق أنه موقف جاد، حيث طالب بصيانة وحدة وسلامة الأراضي الأذربيجانية، وإنهاء الاحتلال قائلا: «إن بلاده تقف ضد احتلال الأراضي الأذرية بالقدر نفسه الذي ترفض فيه الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين». وهو موقف سليم يشكل ضغطا أكبر على الاتحاد الروسي لإعادة النظر في دعمه للاحتلال الأرميني.

بين تجميد النزاع وحله

هناك تشابه بين ما جرى لأذربيجان بين عامي 1989 و1994، وما جرى في فلسطين. فإقليم ناغورنو كراباخ بكامله يقع ضمن أراضي أذربيجان. وأثناء فترة حكم ستالين، عمل على تغيير التجمعات الديموغرافية المنتمية لعرق واحد، واستبدالها وخلطها مع الأعراق الأخرى، ونقل السكان من منطقة لأخرى، كي يخلق شعبا لا ينتمي إلا إلى الأيديولوجية الماركسية، التي كان يفرضها بالقوة ويعاقب بالموت كل من خالف تلك التوجهات. وقام خلال السنوات 1936- 1938 ما سمي في التاريخ «التطهير العظيم» أو «The Great Purge» الذي أودى بحياة ملايين البشر، تحت يافطة «الثورة المضادة» رحلت مجموعات أرمينية لتستقر في إقليم ناغورنو كاراباخ، وعند بداية تصدع الاتحاد السوفييتي، قامت المجموعات الأرمينية في الإقليم بإعلان جمهورية «أرستاخ» واعترفت بها أرمينيا فورا، وقامت بتسليح الناس وبدأت عملية تطهير عرقي واسعة ضد الأذربيجانيين. حاولت أذربيجان وهي منهكة متعبة مفككة، أن تحمي إقليمها في حرب استمرت ثلاث سنوات بدون جدوى. قامت أرمينيا بالاستيلاء على الإقليم بحجة أنه أرض أرمينية، حيث قتل في المعارك عشرات الألوف، وتم تدمير القرى والبلدات، وتشريد ما يقرب من مليون من السكان، الذين أصبحوا لاجئين في بلدهم. لقد استغلت أرمينيا حالة التفكك والضعف عشية الاستقلال، مدعومة بروسيا، فاحتلت سبع مناطق أخرى محاذية للإقليم، تعادل 9% من البلاد، ليصبح مجموع ما اقتطعته أرمينيا من أراضي أذربيجان نحو 20%.

وعلى طريقة قرارات مجلس الأمن المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي 242 (1967) و338 (1973) التي تطالب إسرائيل بالانسحاب من الأراضي التي احتلتها، اعتمد مجلس الأمن نتيجة هذا الصراع أربعة قرارات خلال ذروة المواجهات عام 1993. كان أولها القرار 822 بتاريخ 30 إبريل، الذي دعا في فقرته العاملة الأولى إلى «انسحاب جميع قوات الاحتلال فورا من منطقة كيلبيدجار والمناطق الأخرى الأذربيجانية، التي جرى احتلالها مؤخرا». ثم اعتمد القرار 853 في يوليو والقرار 874 في أكتوبر، ثم القرار 884 في 12 نوفمبر، الذي أدان انتهاكات أرمينيا لوقف إطلاق النار، واستئناف القتال، واحتلال مناطق جديدة في أذربيجان من بينها مدينة غوراديز ومنطقة زغلان، وطالبها بالانسحاب الفوري. أربعة قرارات لا تعترف باحتلال الأرض بالقوة، وتدين العدوان وتطالب بالانسحاب الفوري من الأراضي، التي احتلتها، لكن أرمينيا رمت هذه القرارات وراء ظهرها وأهملتها، وكأنها لم تكن ولا قيمة قانونية لها مثل إسرائيل بالضبط.

الأقاليم المحتلة هي الشغل الشاغل للشعب الأذربيجاني، والتصميم على إعادتها لحضن الوطن، لا تنازل عنه، إما بحل سلمي مشرف أو بالقوة

منظمة الأمن والتعاون الأوروبية أفرزت مجموعة منسك (باسم عاصمة روسيا البيضاء) من بين أعضائها كلجنة وساطة مكونة من روسيا، التي ساعدت أرمينيا على احتلال الإقليم، وفرنسا المنحازة أبدا ضد الإسلام والمسلمين، وأول دولة تعترف بمذبحة الأرمن عام 1915، والولايات المتحدة التي تمسك العصا من المنتصف، وتلعب على حبل تجميد الصراع. بالضبط كما أفرز توني بلير وجورج بوش اللجنة الرباعية لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي عام 2002، ووضعوا خريطة طريق لقيام دولة فلسطينية، والآن وبعد 18 سنة، أنظر أين نحن من الدولة. مجموعة منسك جمدت الصراع ولم تحله. وكانت سعيدة بأن حدة المواجهات تراجعت، وتوقفت البنادق، وكانت تعتقد أن «الأمر الواقع» سيفرض نفسه. أرمينيا استغلت حالة اللاسلم واللا حرب، بتعزيز وجودها في الإقليم ففتحت الطرق، وبنت ممر لاشين، الذي يربط الإقليم بأرمينيا، وعززت ما تسمية دولة أرتساخ وميليشياتها، التي ما فتئت تعتدي على الأذربيجانيين، وتهاجم القرى والمناطق المجاورة، بالضبط على طريقة المستوطنين، الذين زرعتهم إسرائيل في المناطق المحتلة لترويع السكان والاستيلاء على أراضيهم وحرق أشجارهم. إنها ممارسات المحتل المتغطرس الذي لا يخشى المساءلة لأن هناك من يحميه. لكن أذربيجان لم تكن لتنام على غيض وقهر للأبد. لقد عززت علاقتها بتركيا والولايات المتحدة لتحديث قدراتها العسكرية والحصول على أسلحة متطورة، وجلبت أسلحة من إسرائيل كمعظم الجمهوريات التي انفكت من الاتحاد السوفييتي، ظنا أن أقرب الطرق إلى واشنطن يمرّ من تل أبيب، لكنها عادت وعدلت مواقفها بمشورة من تركيا، فاعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية وفتحت سفارة لفلسطين ومنحت الفلسطينيين العديد من البعثات الدراسية والمساعدات الإنسانية، وسمحت للسفير الفلسطيني أن يلقي محاضرات حول القضية الفلسطينية في أرجاء البلاد.

تشعر أذربيجان الآن بأنها قادرة على استعادة أرضها بالقوة وبسهولة مطلقة، بعد أن بنت جيشا حديثا ومتطورا ومسلحا بطريقة متينة يشرف على تدريبه ضباط أتراك وقد خصصت ميزانية كبيرة للجيش، وأعدت البلاد كلها للمواجهة. وقد لمست في زيارتي لباكو عام 2016 أن قضية الأقاليم المحتلة هي الشغل الشاغل للشعب الأذربيجاني، والتصميم على إعادتها إلى حضن الوطن، أمر لا يمكن التنازل عنه، إما بحل سلمي مشرف أو بالقوة. وبعد مواجهات في يوليو الماضي استمرت لعدة أيام خرج الشعب عن بكرة أبيه في مظاهرات حاشدة تطالب بالتجنيد الإجباري والتوجه نحو التحرير، ورفعوا شعارات وطنية، وهم يلوحون بالأعلام ويهتفون « كاراباخ لنا» «المجد للجيش» «نحن جنود المستقبل» «إعلن التعبئة أيها القائد العام».

بدأت الاشتباكات يوم 27 سبتمبر الماضي، ومن الواضح أن الغلبة كانت لأذربيجان، وبدأ الجيش يسترجع بعض القرى والمناطق المحتلة. تحرك العالم فورا لأن هناك دولة يئست من المجتمع الدولي، وقررت أن تسترد حقوقها بالقوة، فاجتمع مجلس الأمن وأصدر مجموعة نقاط تردد ما قاله الأمين العام حول ضرورة وقف إطلاق النار فورا، والالتزام بالتهدئة، وخفض التصعيد، والعودة إلى طاولة المفاوضات تحت مظلة مجموعة منسك… اللغة الخشبية نفسها التي يكررها الأمين العام حول القضية الفلسطينية، وضرورة العودة إلى المفاوضات للوصول إلى حل الدولتين. والغريب أن الأمين العام لم يشر إلى العودة إلى المفاوضات بين أرمينيا وأذربيجان على أساس قررات مجلس الأمن المعتمدة عام 1993. وقد أثرت المسألة مرارا مع المتحدث الرسمي سائلا، كيف لأمين عام يمثل القانون الدولي والقرارات الدولية لا يشير لا من قريب ولا من بعيد لتلك القرارات، ويردد العودة إلى المفاوضات تحت مظلة مجموعة منسك، المنحازة أصلا للمعتدي. أذربيجان الآن في وضع قوي حتى للمفاوضات من مركز قوي، إذ إنها تجمع الآن إضافة إلى قوة الحق القدرة على استرجاعه.

إسرائيل انسحبت من سيناء، بعد أن دفعت الثمن غاليا في حرب أكتوبر 1973، وانسحبت من جنوب لبنان عام 2000 بالقوة لوقف نزيف قواتها في الشريط الأمني، وانسحبت من غزة عام 2005 بعد أن أصبحت تكاليف الاحتلال وحماية المستوطنات الثلاث عشرة مكلفا وفوق طاقاتها. وسترغم أرمينيا على الانسحاب من أراض احتلتها ظلما وقهرا في ظل موازين قوى مختلة لصالح الخصم، فما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، والمفاوضات التي لا تجد قوة تسندها توصل المتمسكين بها إلى دروب الهلاك.

محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي.

وسوم: العدد 898