عندما يكون الرئيس الفرنسي جاهلاً بحقيقة الحرية والليبرالية

د. أحمد بن عثمان التويجري

*استاذ جامعي وعضو سابق في مجلس الشورى لدورتين متتاليتين ومحام مشهور وشاعر وكاتب*

في ردة فعل حمقاء عقب مقتل مدرس فرنسي أحمق على يدي مراهق معتوه (قيل: إنه من جمهورية الشيشان) خرج الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكارون على العالم ليقول بصفاقة وحماقة: "إن الإسلام يعيش أزمة في كل مكان في العالم" !!! بل تجاوز ذلك إلى القول: "إن المدرس قتل بيد جبناء لأنه كان يجسّد القيم العلمانية والديمقراطية في الجمهورية الفرنسية"، و "إن فرنسا لن تتخلى عن الرسوم الكاريكاتورية" (أي الرسوم التي أساءت وتسيء لرسول الإسلام عليه أفضل الصلاة والسلام التي نشرتها ثم أعادت نشرها مجلة تشارلي إبدو الفرنسية).

يا لها من حماقة وصفاقة، ويا له من جهل شنيع ليس بحقيقة الإسلام وحقيقة المسلمين فحسب وإنما بحقيقة الحرية والليبرالية اللتين يفترض أن الجمهورية الفرنسية قامت عليهما.

إن من الواضح الجلي أن الرئيس الفرنسي هو من يعيش أزمة كبرى، وإلا كيف يليق بمن هو في منصبه أن يحمّل أعظم دين عرفته البشرية يعتنقه ما يقرب من ملياري إنسان وهو أكثر الأديان انتشاراً في عصرنا الحاضر ليس في العالم فحسب وإنما في الجمهورية الفرنسية نفسها ، مسؤولية تصرفٍ إجراميٍ أهوج لمراهقٍ لا ندري إن كان تصرفه فردياً أم كان نتيجة عمل استخباراتي يتجاوزه ويتجاوز  جميع من كانوا حوله !! وأي جهل وعمى بصيرة دفعا الرئيس الفرنسي ليقول بكل استهتار: "إن فرنسا لن تتخلى عن الرسوم الكاريكاتورية" وهو يعلم أن الرسوم التي يشير إليها تتضمن إساءة شنيعة وجاهلة لرسولٍ من رسل الله عليهم الصلاة والسلام يؤمن به ويتبعه ما يقرب من ملياري إنسان في جميع أصقاع الأرض!!!، بل وهو يعلم أن العالم الإسلامي كله حكومات وشعوباً ضج عندما نشرت الرسوم المسيئة وأدانها واستنكرها أشد الاستنكار، بل وهو يعلم أن كثيراً من شرفاء العالم من غير المسلمين أدانوها واستنكروها ومنهم بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق والإسكندرية غريغوريوس الثالث الذي قال:"إن الرسوم الكاريكاتورية التي نشرتها تشارلي إبدو جريمة وخطيئة يجب وضع حد لها ، وإن إساءة الصحيفة للنبي محمد عمل اجرامي".

في الجانب الآخر ما أقبح أن يجهل رئيس الدولة التي تدعي أنها محضن اللبرالية واللائكية حقيقة اللبرالية والحرية!!، وأن يعد بحماقة وجهالة أن الإساءة والتشويه وازدراء الأديان ومعتقدات الآخرين جزءاً من الحرية واللبرالية!! بل وأنها "تجسيدُ للعلمانية والديمقراطية في الجمهورية الفرنسية"، في وقت يعلم فيه وهو جزء من الاتحاد الأوروبي أن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان حكمت في قرار تأريخي لها بأن الإساءة للرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- لا تندرج ضمن حرية التعبير على الإطلاق. وفي وقت يفترض فيه أن يعلم أن كبار مؤسسي ومنظري الفلسفة اللبرالية من أمثال جون لوك وتوماس هوبز وجان جاك روسو وإيمانويل كانت لم يؤمنوا بحرية فوضوية لا حدود لها وإنما آمنوا جميعاً بأن حرية الفرد يجب أن تراعي وأن تتوازن مع حقوق وحريات الآخرين.

من المناسب أن نذكّر الرئيس الفرنسي ومن هم على شاكلته بأن علمانية الجمهورية الفرنسية وديموقراطيتها لم تتردد في محاكمة أستاذ الأدب الفرنسي البروفيسور روبير فوريسون (Robert Faurisson) وتجريمه والحكم عليه بناء على قانون غيسو ( Loi Gayssot)‏ لا لشي سوى أنه شكك بناء على حقائق وأدلة تاريخية في عدد من ماتوا من اليهود على يد النازيين !! بل وزادت على ذلك بطرده من جامعة ليون وهو من أشهر أساتذتها !!!، وأن نذكرهم كذلك بأن فرنسا الحريات والديموقراطية واللبرالية لم تتردد في تجريم المفكر الفرنسي الشهير البروفيسور روجيه جارودي Roger Garaudy والحكم عليه بالسجن لمدة عام لمجرد أنه ألف كتاباً بعنوان "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية"

‏Les Mythes fondateurs de la politique israélienne i ، أورد فيه آراء عدد من المؤرخين الكبار الذين شككوا في حقيقة حجم ضحايا النازية من اليهود !!

فأين مجرد التشكيك بعدد ضحايا النازية من اليهود من الإساءة إلى نبي من أنبياء الله والتعدي عليه وتشويهه ظلماً وزوراً وبهتاناً ، وأين مجرد التشكيك بعدد ضحايا النازية من استعداء وجرح مشاعر ما يقرب من ملياري مسلم يؤمنون بمن أساءت الرسوم إليه ويرونه أشرف خلق الله!!!

ولعل من المناسب أيضاً أن نذكر الرئيس الفرنسي ومن هم على شاكلته بأن في متحف الإنسان في باريس ما يقرب من ثمانية عشر ألفاً من جماجم الثوار الجزائريين الذين نكّلَ بهم وجزَّ رؤوسهم جنود فرنسيون في سابقة لم تعرفها البشرية (قبل أن تمارس داعش التي هي صنيعة استخباراتية باعتراف وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلنتون هواية جز الرؤوس)، وإن من المخزي أن فرنسا لا تزال تتلكأ في إعادة وتسليم تلك الجماجم لتدفن بلادها، بل لقد بلغت الوقاحة بالرئيس الفرنسي إلى درجة أنه ساوم الحكومة الجزائرية على أنه مقابل إعادة الجماجم فإن على الجزائر أن تعفو عن الحركيين الجزائريين الخونة الذين قاتلوا في صفوف الجيش الفرنسي في الجزائر وقتلوا إخوانهم وإبناء وطنهم ، والسماح لهم بالعودة إلى الجزائر!!!

أخيراً إن من المناسب كذلك أن نذكرهم بأن دين الإسلام أشد الأديان على الإطلاق تجريما لإزهاق الأنفس البريئة فقد عدّ قتل نفسٍ واحدةٍ بغير حق مساوياً لقتل الناس أجمعين،  وأنه أعظم دين عرفته البشرية  فيما يتعلق بحب السلام والتسامح والحض عليهما، ونبذ العنف والتطرف والتحذير والتنفير منهما، وأن رسول الإسلام عليه أفضل الصلاة والسلام كان أعظم دعاة الرحمة والأخوة الإنسانية ، وقد شهد بذلك عدد لا يحصى من مفكري الغرب ومؤرخيه وفلاسفته  وفي مقدمتهم  الفيلسوف والشاعر الفرنسي لا مارتن والمؤرخ الفرنسي الشهير جوستاف لوبون الذي قال: "و إذا ما قِيسَتْ قيمة الرجال بجليل أعمالهم كان محمد من أعظم مَنْ عَرَفهم التاريخ، وقد أخذ بعض علماء الغرب يُنصفون محمداً مع أن التعصب الديني أعمى بصائر مؤرخين كثيرين عن الاعتراف بفضله”. ومن آخرهم ولي العهد الإنجليزي الأمير تشارلز الذي قال : "إن الإسلام يمكن أن يعلمنا طريقة للتفاهم والعيش في العالم، الأمر الذي فقدته المسيحية، فالإسلام يرفض الفصل بين الإنسان والطبيعة، والدين والعلم، والعقل والمادة".

إن المحزن والمؤلم في الدرجة الأولى ليس موقف الرئيس الفرنسي فأمثاله في الغرب كثر، وإنما المحزن والمؤلم هو الموقف المخزي لبعض أدعياء الثقافة واللبرالية من أبناء المسلمين الذين انبروا للدفاع عن الرئيس الفرنسي وتبرير موقفه المشين ليجمعوا بذلك بين سوأة الجهل وسوأة انعدام الغيرة. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وسوم: العدد 900