العدالة والتاريخ وميزان القوى

تثير مفاهيم العدالة والحق والتاريخ والسياسة نقاشاتٍ نظرية واسعة، تأخذ بعدًا فلسفيًا يمتد منذ زمن الفلسفة اليونانية القديمة، فهو نقاشٌ مستمرٌّ على الصعيد الفلسفي، لم يتمكّن أحد يومًا من حسمه أو الوصول إلى نتائج نهائية فيه، خصوصًا عند نزول هذه الأفكار من عليائها، وارتطامها بأرض الواقع، حيث لا تعدّ ضربًا من التأمل الفلسفي المجرّد الذي يعزل عالم الأفكار عن عالم المادة، بقدر ما يطلب منها إصدار أحكام، واتخاذ قراراتٍ، تترتب عليها نتائج تتعلق بمعاش الإنسان وسبل تغييره وتقدّمه، أو دفعه إلى الركون لحاله والاستسلام له، وهو الدافع إلى هذه المقالة التي تحاول نقد هذه المفاهيم بادّعائها الانتساب إلى عالم الفلسفة والفكر، بينما هي واقعيًا تمثل دعوة صريحة إلى الرضوخ والاستسلام. وسنلجأ هنا إلى نقد نتائجها وتطبيقاتها، متجنّبين الخوض في أصل هذه الأفكار وفلسفتها، والذي قد تكون له فسحة أخرى.

يتلخص الحديث عن مفهوم العدالة عند أولئك بأنها فكرةٌ وهمية، فهي فكرة للتأمل والفهم فحسب، وليست للعمل أو التطبيق، ولا يجب أن تُؤخذ على محمل الجد، وأن العدالة النسبية تقوّض فكرة العدالة ذاتها، ليخلصوا إلى أن العدالة ليست سوى مفهوم تربوي نلقّنه للأطفال، حيث هي مسألة أخلاقية لا علاقة لها بالصراعات الكبرى في التاريخ الذي لا يحفل بالقضايا الأخلاقية في تقرير نتائج الصراع وتحديد العلاقات الدولية، إذ ترجع فكرة العدالة المطلقة في حل الصراعات إلى مفهوم فلسفي ديني، قوامه أن ثمّة قوة منظمة في هذا العالم، وهي خيّرة، ولذلك لا بد وأن تتحقق العدالة يومًا ما، فهي في جوهرها محصلة لمجموعة من القوى، وليست فكرة فاعلة في حد ذاتها.

ترجع فكرة العدالة المطلقة في حل الصراعات إلى مفهوم فلسفي ديني، قوامه أن ثمّة قوة منظمة في هذا العالم، وهي خيّرة، ولذلك لا بد وأن تتحقق العدالة يومًا ما

ننتقل من هذا الإطار النظري، لنرى كيف تتم محاولة تطبيقه على القضية الفلسطينية. بداية، ثمّة زعم أنه إذا كان العدو قد بنى روايته على سرديته الدينية، فإن العقل الفلسطيني قد انجرّ إلى المسار ذاته بتبنيه سرديته التي ترى أن القوى الكونية حتمًا ستنصفنا وتمنحنا حقوقنا، فالرؤية الدينية في العقل الفلسطيني هي التي تخيِّل إليه أن كل شيء سيعود إلى ما كان عليه، وهي فكرة ساذجة، لأن التاريخ يتقدّم ويتغيّر، وعلى الفلسطينيين أن يتحرّروا من فكرة الحتمية تلك. هذا هو فحوى الدرس الأول، فضلًا عن تهمة تمسّك الفلسطينيين بسرديّتهم التاريخية بأنه انعكاسٌ للسردية الصهيونية التوراتية، واعتبارها سببًا للفشل، في حين أنه في ظل تمكّن الصهيونيين، في ظل تمسكهم بسرديتهم التوراتية، من إنجاز القسم الأكبر من مشروعهم، وإن كان لها من دلالةٍ تُستنتج فهي تعني أن التمسّك بهذه المرويات ليس هو مقياس النجاح أو الفشل، وأنه ثمّة كيل بمكيالين هنا. 

الرؤية الدينية في العقل الفلسطيني هي التي تخيِّل إليه أن كل شيء سيعود إلى ما كان عليه، وهي فكرة ساذجة، لأن التاريخ يتقدّم ويتغيّر

الدرس الثاني الذي يقدّمونه لنا أن القضية الفلسطينية سياسية بالدرجة الأولى، وأن الجانب الأخلاقي فيها ثانوي، وأن الأفضل التحوّل من التفكير في العدالة إلى التفكير في الممكن الذي يتحدّد وفق اعتبار أن المنتصرين هم الذين يضعون القواعد، بينما على المهزومين أن يلطّفوا نتائجها ويخففوا من تبعاتها، وأن الثوابت فكرة وهمية، شأن العدالة، في محاولةٍ بائسةٍ لعكس المفهوم الفلسفي عن الثوابت، باعتبار أنه لا توجد ثوابت في الكون، ولا في فهم العالم وتفسيره، وأن الثابت الوحيد هو المتغيّر، للمسّ بالثوابت الوطنية للشعب الفلسطيني. فإذا كان الثابت الوحيد هو المتغير، لماذا يتجمّد هذا التغير، عند الحديث عن الصراع، والمنتصر والمهزوم، وموازين القوى، وكأنها ثابت أبدي لا يمكن تغييره؟ أما النتيجة المستخلصة فهي عدم وجود تسوية عادلة في التاريخ، وأن التسوية المطروحة هي الممكنة في ضوء الإمكانات المتاحة، وأن فكرة الحق تكمن في استعادة ما يمكن استعادته، وأن الوضع الأفضل هو ما يمكن الحصول عليه ضمن الأوضاع الراهنة.

قد تهم بعض المقدمات النظرية أولئك المشتغلين بالفلسفة، لكن محاولة استنباط تلك النصائح منها تناقض تمامًا علوم التاريخ والسياسة، بل والفلسفة ذاتها باعتبارها أمًّا للعلوم. ماذا لو سحبنا تلك الاستنتاجات على المسار البشري كله، واعتبرنا أن موازين القوى التي سمحت للمنتصر أن ينتصر، قد استكان لها المهزوم، بعد أن لطّف نتائجها، وبرّر بها خضوعه لسيده، وقبوله تلك التسويات، ألا يتناقض ذلك مع فكرة التدافع بين الأمم والحضارات؟ وهل استمر التاريخ أم تجمّد عند نقطة معينة، بقي فيها المسيطر مسيطرًا والمهزوم مهزومًا؟ وفي سياق غياب مفاهيم الحق والعدالة، وإخضاعها المستمر لمنطق القوة فحسب، كيف كان شكل العالم في ما مضى وكيف سيكون في ما هو آتٍ؟ في حين كانت فكرة العدالة على الدوام، وعلى مر العصور، المحرّك الرئيس وراء التغيرات الكبرى في التاريخ، بما في ذلك على صعيد الأفكار والأيديولوجيات والسعي الدائم نحو عالم أفضل. 

كم من قضايا عادلة هُزمت لأن القائمين عليها لم يتمكّنوا من استخلاص النتائج الصحيحة من تحليل ميزان القوى

يقودنا ذلك كله إلى محاولة لفهم السياسة وموازين القوى، إذ ثمّة تعريف شائع للسياسة بأنها فن الممكن، وليس العيش في وهم المتخيَّل. وهو تعريفٌ خاطئ، يقود دومًا إلى قبول الأمر الواقع والانصياع له، بدلًا من العمل على تغييره. أما التعريف الذي أظنه أكثر ملاءمةً للسياسة فهو العمل على جعل الأفكار والأهداف قابلة للتطبيق. وهذه هي سنة التغيير في العالم.

رؤية موازين القوى على حقيقتها ضرورة لازمة لأي تغيير، فكم من قضايا عادلة هُزمت لأن القائمين عليها لم يتمكّنوا من استخلاص النتائج الصحيحة من تحليل ميزان القوى، ليقرّروا وفقًا لها متى يكون التقدّم أو التراجع، وما هي الوسيلة الأنجع، والاستراتيجية الأصح، فثمة منهجان في النظر إلى ميزان القوى؛ واحد يرى فيها نقاط ضعفه ونقاط قوة خصمه، فيقرّر بناءً عليها أن يستسلم، والثاني يحللها ليعرف مكامن القوة والضعف، ويضع استراتيجيته لتغييرها؛ إذ لا يجوز النظر إلى موازين القوى باعتباره أمرًا ثابتًا جامدًا لا يمكن تغييره، وهذه قاعدةٌ أساسيةٌ من قواعد العمل السياسي، وإلا كيف يمكن أن نفسّر الحراكات والثورات، وتقدّم دول وانهيار أخرى؟ فلولا ميزان القوى المختل، وعدالة القضايا، لما نشأت الثورات، ولا استقلت الشعوب، وتدافعت الأمم. والتمسّك بمفهوم العدالة هو الذي يدفع إلى التمرّد على الظلم، ويتحدّى الهزيمة بدلًا من تلطيفها.

وسوم: العدد 902