حديث المرآة

سألته بعد تردد : ويحك منذ سنوات وأنت تحاول اللحاق بما خسرته، تارة تحاول ترميمه ، وتارة تحاول الإمساك به ، وعبثا تحاول ، وركضك ولَّى من غير فائدة . وهكذا حين تفقد شخصًا، مكانًا ، شيئًا لم تتوقع يوماً خسارته ، فكل ما بوسعك  فعله هو الركض ... فاركض بأقصى سرعة لديك ، بكل قوتك ، وحواسك ، تفكيرك ... حتماً لن تستطيع اللحاق بما فقدتْ ، لكنك ستعاقب نفسك التي خذلتك  حين أتاحتْ لك المجال _ لما خسرت _ أن يُفلت من قبضتك دون أيّ محاولة منك لإقناعه بالعدول عن الرحيل  . فأنت من جعله يتسرّب من بين أصابعك من شدة اهتمامك بإهماله ! والآن اعتدت عادة الركض، أنت تركض كثيراً.. وكثيراً جداً .. أنفاسك اللاهثة ، ونبضات قلبك التي تطرق باب صدرك بقوة ، وعضلاتك المتقلصه ،  دموعك ، ووجعك ... جميعها أعراض خسارتك .

من خذلك ؟ لن تسمع جوابا من أحد . .. وإنما أنت من خذل نفسك

أنصتَ إليها بهدوء مفرط قائلاً : الماضي لم يمض! لازال هنا بيننا، يقطن معنا. نسمع وقع خطواته وأنين بكائه ، لا وجود لحفرة تتسع لصمته وكلامه معا، كل ما كنّا نفعله طوال الوقت هو إصدار ضجيج ليمحو رائحة الأماكن ، وعيش تفاصيل تلهينا عن حقيقة كونه موجودًا!

 نحن_ورغما عنّا_ انتقلنا من مرحلة لأخرى وبرحيلنا تغيّرت الأماكن والأشخاص ، وكل الأشياء من حولنا بتنا نسير بحذر بجانب من غاب عنّا نخافُ إيقاظه! ننفض الغبار عن أصواتهم وضحكاتهم من رفوف الذاكرة ونعيدهم إلى أماكنهم التي عبثًا يحاول غيرهم المكوث فيها.

لم تكن مجرد سنوات جمعتنا بهم ، فهانحن نعيش سنوات غيرها ! ولم يجمعنا بهم مجرد شارع أو سور حديقة أو مقعد في مدرسة أو فنجان قهوة فوق طاولة بمقهى أو.. أو.. مايجمعنا بهم أعمق من كل تلك التفاصيل وأكثر خصوصية، هم من شكّلنا  لنبدو ما نحن عليه الآن بهذه الصورة وهذا المزاج، نضحك بأصواتهم ، ونتحدث بأفكارهم ، ونمضي بحياتنا على خطاهم .فعن أي ماض تتحدثين ؟ وكيف لكل ما عشناه سابقا أن يمحوه  زيف يومياتنا المبتذلة؟ كل مايدور حولنا ماهو إلاّ مسرحية سخيفة حتى أن أبطالها ارتدوا ثيابا فضفاضة لا تليق بهم ، لذلك كان العملُ فاشلا. ما أقسى أن تتقلّدَ الحقيقةُ ثياب الصمت ، لتعيشَ مكتومة الأنفاس في ذل وخضوع مخجل ، خشية أن يودي بها ـــ ضعيفًا ـــ تقلّد ثياب القوة فَحَكَمَ الجميع بظلمه .

فزيف يومياتنا سراب لم يؤهلنا لدخول دائرة السلامة المنشودة ، ومقاومتنا لبريق هذا السراب فشلت أيضا ، بل جلبت لنا الحسرة التي يتقد جمرها في صدورنا منذ أمد . نشعر أننا في حالة ضعف أمام تيار  خيالنا الذي يندفع بقوة في الآفاق . ولكنَّ نداءً خفيا من الأعماق يلهمنا تحفيزا لايغادر  خطانا التي تتعثر على مدارج إرادتنا ، ولكنها تقوم مرة بعد مرة . ويبقى ذلك النداء الخفيُّ الحفيُّ بأسباب نجاتنا يجلجل صداه في حنايا النفس التي تتنفس به الصعداء ، وتبقى حروفه النورانية تضيء المنعطفات التي نتخطى عقباتها . فالنفس المطمئنة تتوق دائما إلى فضائها لتملأه من جديد بما فاتها من حب للحياة الآمنة التي أرادها الله سبحانه وتعالى لإعمار الكون الفسيح .

وسوم: العدد 905