نهضتنا بين الأصالة والتبعيّة

[ من افتتاحية مجلة حضارة الإسلام – العدد الرابع – جمادى الآخرة 1383هـ -

للدكتور مصطفى السباعي رحمه الله ]

 

من سنن الله في الكون أن تستفيد كل أمة ناهضةٍ من تجارب الأمم التي سبقتها، وأن تقتفيَ أثرها في ميادين العلم والصناعة والاقتصاد وغيرها، غير أن الأمة ذات الشخصية المستقلة المعتزّة بتراثها الحضاري – كأمّتنا- تأبى أن تذوب في كيان الأمم القوية، وتأبى أن تتبعها في كل مناهج حياتها ووسائل معيشتها، فلكل أمة ظروف خاصة بها، وبيئة تنفرد بها، وطراز في التفكير قد تنفرد به عن غيرها، وقد تلتقي معه، هذا عدا ما لها من تراث حضاري وتشريعي خالد، فإنها تأبى لها كرامتها الشخصية أن تتبع غيرها كالببغاء دون أن تستفيد من تراثها وحضارتها.

إن أمة كأمتنا في هذا الطور من أطوار نهضتها "تستفيد" و"لا تذوب" و"تأخذ" و"لا تستجدي" و"تنظر" و"لا تنبهر"، هكذا تفعل الأمم التي تريد الحياة متصلة بمن سبقها إلى الحياة من آبائها وأجدادها.

يوم خرجنا من جزيرتنا تحدونا تعاليم الإسلام إلى تحرير العالم من وثنيّته وجهله وتخلّفه، ووجدنا أنفسنا وجهاً لوجه أمام الحضارتين الرومانية والفارسية. لم يمنعنا إسلامنا من الاستفادة من علومهما وثقافتهما، ولكننا حين استفدنا ذلك كنا موحّدين لا وثنيّين، فلم نستسغ أدب الوثنيّة ولا شِعرها ولا فلسفتها، فظل الجانب الوثني من حضارات الأمم التي اتصلنا بها مغلقاً لم نُقْبل عليه، ولم يضرنا ذلك في شيء، فما كنا نحمله من نور التوحيد وهدايته هو الذي وضْعنا في سبيل إيصاله إلى الدنيا أرواحَنا ودماءنا، وبذلنا من أجله كل غال ورخيص، وهجرنا له أوطاننا ونساءنا وأولادنا، ولقد كنا محسنين إلى الإنسانية كل الإحسان حين أخذنا بوعي وتركنا بوعي، فما كان من خير الإنسانية أن تستمر الوثنية والضلالة والخرافة مسيطرة على عقول الناس بعد أن جاء الإسلام بهدايته ووحدانيّته ونظمه.

وحين استفاقت أوروبا من غفلتها في القرون الوسطى على هدير حضارتنا، وتفتحت عيونها على أشعة شمسنا المشرقة الصافية، رأت من الخير أن تستفيد منا، فأخذت منا العلوم والفلسفة، ولم تأخذ منا الأدب والدين، ولو فعلت ذلك يومئذ لاختصرت من شقاء الإنسانية وتخبّطها في الضلالة قروناً طوالاً...

إنّ أقلَّ ما يحتّمه واجبُ الوفاء لهذه الأمة، التي نُباهي بأننا نريد إعلاء شأنها ورفع مستواها، أن لا نشطب بجرة قلم كل ما عندها من عقيدة وتراث وتشريع، افتتاناً منا بنظم لم تثبت صلاحيتها في بلادها فضلاً عن بلادنا، وفي محيطه بل محيطنا.

ولعل من أعجب المفارقات في عصرنا هذا أن تبلغ الثقافة والمعرفة ذروتها، وأن يكتشف الإنسان كثيراً من أسرار الفضاء الذي يحيط بكوكبه، ثم نرى الجهل الفاضح بالإسلام ونظمه وتشريعاته سائداً الكثرة الساحقة ممن يحملون لواء المعرفة والثقافة، لا في الغرب والشرق فحسب، بل في بلادنا ممن يحسنون معرفة كل شيء عن غيرهم، ويجهلون كل شيء عن حضارة أمّتهم وعقيدتها. فإذا كان بعض الناس يجهلون ذلك لظروف تاريخية لا يد لهم فيها، فما عذر الذين يتجاهلونه عمداً وليس ذلك في مصلحة أمّتهم ولا في مصلحة الإنسانية التي هي بأشدّ الحاجة إلى ما عندنا من خير وهدى؟.

وإذا كان التشريع الإسلامي يَبْهَر أنظار الغربيّين المُنصفين، وبخاصة فيما يتعلق بمشكلات الحضارة من اجتماعية واقتصادية، أفليس من الغريب أن يستهين بعض الناس عندنا بهذا التشريع، زاعمين أنه لا يتفق مع تطور الحضارة وتقدّم الإنسان؟!.

إننا لا نشكّ – وسيُثبت التاريخ ذلك – في أن كل تجاهل للإسلام في مرحلتنا الحاضرة جهل أو مؤامرة، وليس في واحد منهما ما يشرّف هؤلاء الجاهلين أو الحاقدين، وأن أمتنا لا تغتفر لهم صنيعهم هذا، والتاريخ سينحى عليهم بأكبر اللائمة، فما في الأرض اليوم دين يحل مشكلات الحياة كالإسلام، ولا خُلُق ينشر الصفاء والسلام بين أبناء الإنسانية جميعاً كخُلقه، وإنّ الذين يتجاهلون هذا الدين وأخلاقه قوم لا يصلحون للحياة أبداً.

وسوم: العدد 905