قيس بن سعيد وانتصار اللغة العربيّة

 

  • أعرابيّ في القمّة العربيّة

في "معجم الأدباء" للحموي قال: تكلَّم أبو جعفر المنصور في مجلسٍ فيه أعرابي؛ ‏فلحن، فصرّ الأعرابي أذنيه ـ يعني: نصبها للاستماع ـ فلحنَ مرّةً أخرى أعظم من ‏الأولى، فقال الأعرابي: أفٍّ لهذا؛ ما هذا؟! ثُم تكلّم فلحنَ الثّالثة، فقال الأعرابي: ‏أشهدُ لقد وُلِّيت هذا الأمرَ بقضاءٍ وقدَرٍ.‏

هذا الأعرابيّ رأى أنَّ المنصور لم يكن مستحقًّا للحكم لمّا عاين في مجلسه بعض ‏اللحن في لسان المنصور؛ فيا ويح قلبي ما الذي كان هذا الأعرابيّ سيقول لو أنّه ‏حضرَ قمّةً عربيّةً من القمم التي يتبارى فيها الحكّام باستعراض عضلات ألسنتهم ‏المعوجّة؟!‏

على أننّي موقنٌ بأنَّ هذا الأعرابيّ لو كان موجودًا حين إعلان نتيجة الانتخابات ‏الرّئاسيّة في تونس لرأى اللّغة العربيّة ترقص طربًا مع الجموع التونسيّة التي خرجت ‏إلى الميادين مبتهجةً بفوز قيس بن سعيد بالرّئاسة.‏

نعم؛ كثيرون لم ينتبهوا لوجودها، لكنَّ اللغة العربيّة تعدّ نفسها من المنتصرين في ‏الانتخابات الرّئاسيّة التونسيّة، ولئن كان فوز قيس بن سعيد بالرّئاسة لطمةً قويّةً ‏على وجه الثّورات المضادّة؛ فهو أيضًا صفعةٌ أشدّ قوّةً على قفا فساد الذّوق ‏اللغوي وتردّي الخطاب العربيّ وتهافت اللسان عند عموم الحكّام العرب.‏

  • تكلّم حتّى أراك

دومًا تعاملَ السّاسة والحكّام العرب مع اللّغة العربيّة بازدواجيّة غريبة ومريبة، ‏فخطابات معلنةٌ عن أهميّة اللغة العربيّة وضرورة تعليمها، ولسانٌ عاجزٌ عن إتمام ‏جملةٍ في خطابٍ أمام الجماهير أو أمام زملاء المهنة في قمم جامعة الدّول العربيّة.‏

والتّهتُّك اللغويّ في المتحدّث يسقط هيبته أيًّا كان لكنّه يزداد قبحه مع تعاظم ‏‏المكانة والقدر والمسؤوليّة فكلما كانت المسؤوليّة أكبر كان اللحنُ أقبح، ولذا ‏فاللحنُ أقبحُ ما يكون من حاكمٍ يحكمُ دولةً عربيّة.‏

وقد قال إسحق بن خلف المعروف بابن الطّبيب:‏

النَّحْوُ يَبْسُطُ مِنْ لِسَانِ الأَلْكَنِ

‏ وَالمَرْءُ تُعْظِمُهُ إِذَا لَمْ يَلْحَنِ

لَحْنُ الشَّرِيفِ يُزِيلُهُ عَنْ قَدْرِهِ

‏ وَتَرَاهُ يَسْقُطُ مِنْ لِحَاظِ الأَعْيُنِ

فلطالما كان اللّسانُ راسمًا لصورة المتحدّث وكلام المرء معيارًا لتقييمه، وقد قال ‏عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: "أظلّ أهابُ الرّجل حتى يتكلّم فإن ‏تكلّم سقطَ ‏من عيني أو رفعَ نفسَه عندي"‏، كما قال الفيلسوف اليوناني سقراط: "تكلّم حتّى ‏أراك"؛ فلو أنَّ سقراط سمع خطابات حكّامنا الأجلّاء فرأى العجب العجاب ‏لقال في نفسه: "تسمع بالمعيديّ خيرٌ من أن تراه"‏

لكنَّ الأمر غدا مختلفًا تمامًا مع قيس بن سعيد، الذي تجري العربيّة الفصيحة ‏على لسانه بطلاقةٍ لا تكلّف فيها، وسلاسةٍ لا تقعُّر في أدائها، فتشعرُ أنَّ العربيّة ‏قريبةٌ محبّبة وأنّ كلَّ الأحاديث عن جفاف الفصحى وقربها من النّفس تغدو ‏هشيما تذروه الرّياح أمام الثّقة التي تتحدّر فيها الكلمات من فمه كالماء الزّلال.‏

  • انتخاب قيس بن سعيد والفرانكفونيّة

وممّا يجدرُ الوقوف عنده مطوّلًا هو أنَّ المرشّحين للرّئاسة في تونس تعاملوا مع ‏الشّعب التّونسي في حملاتهم الانتخابيّة بوصفه شعبًا ممسوخ الهويّة، غارقًا في ‏الفرانكفونية على مستوى الشّخصيّة واللّغة والتّفكير.‏

فكانوا حريصين ـ بمن فيهم المرشّح الإسلاميّ ـ على عدم الحديث بالفصحى، ‏ومخاطبة الجماهير بالعاميّة الدّارجة، بل كانوا حريصين على تطعيم حديثهم على ‏الدّوام بالجمل والمصطلحات الفرنسيّة لاعتقادهم بأنَّ هذا أكثر تأثيرًا في الجمهور ‏وأدعى لقبوله، لكنَّ قيس بن سعيد كان موقفه مختلفًا فظلّ محافظًا على لسانه ‏العربيّ الفصيح، وخطابه المفعم بالفصاحة المتجنّب للعاميّة المبتعد تمامًا عن ‏الحديث بالفرنسيّة.‏

وقد أثبت الشّعب التّونسيّ أنّ الصّورة الذّهنيّة المأخوذة عنه من طبقة النّخبة ‏السياسيّة محض وهم، كما أثبت الشّباب التّونسيّ أنّه توّاقٌ إلى هويّته العربيّة ‏والإسلاميّة التي تمثّل اللّغة العربيّة روحها وذلك من خلال التفافه حول قيس بن ‏سعيد بلسانه الفصيح وخطابه البليغ.‏

إنَّ انتخاب قيس بن سعيد هو انتصارٌ للغة العربيّة لأنّه أثبت أنّ هذه اللّغة ‏ليست غريبة عن تونس وأهلها.‏

وهو انتصارٌ للغة العربيّة لأنّه ستكون اللّسان الذي يتحدث به رئيس تونس في ‏أعوام قادمة، ممّا سيجعلها قريبةً أكثر من نفوس هذا الشّعب وسيكون ذلك ‏دافعًا إلى مزيدٍ من الإقبال على التّعامل بها ومعها، فإنَّ الجماهير مجبولةٌ على ‏التّأثّر بقادتها في سلوكهم وأفكارهم.‏

‏ لذا فإنَّ من أوضح مظاهر انتصار اللغة العربيّة في تونس، ومن أعظم وسائل ‏خدمتها في السّنوات القادمة هو أن يكون قيس بن سعيد على سدّة الرّئاسة ‏بلسانه العربيّ المبين.‏

وسوم: العدد 908