عقلنا المجتمعي والثقافة والتلمودية !!!

أدب وسياسة :

" وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج " .. والعبارة جزء من حديث نبوي شريف صحيح . رواه أحمد وأبو داود عن أبي هريرة بلفظ: "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج".

ورواه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بلفظ: "بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار".

وأزعم أنه ما حُمل كذب على دين الله تعالى ، بمثل سوء فهم أو سوء توظيف هذه العبارة النبوية الكريمة .. " وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج "

فقد وظفها أصحاب النفوس الضعيفة ، والفهوم السقيمة ، بأنها رخصة لنقل كل شيء عن بني إسرائيل ، وكل شيء يتعلق ببني إسرائيل ، وربما زاد بعضهم جهلا وغرورا ، ونسبة كل شيء إلى بني إسرائيل، عن طريق الوضع والاختلاق .

وبناء على سوء الفهم هذا ، أو على التستر به حُشي تاريخنا العام " الديني والمدني ، العلمي والسياسي والاجتماعي ؛ بآلاف الروايات المكذوبة الموضوعة على بني إسرائيل من جهة ، وعلى العقل والعلم والحياة من جهة أخرى ... وحتى أصبحت الروايات التلمودية عن الكون والحياة والإنسان جزء من تاريخنا الكوني والطبيعي . في الصورة الشعبية الملونة التي كانت تباع على الأرصفة في حلب ، كانت تعرض بكثرة صورة امرأة ثلاثة أرباع عارية تقدم التفاحة لرجل مثلها ، وتفصل بينهما شجرة تلتف عليها أفعى ، في تجسيد للرواية التلمودية عن آدم والخطيئة ودور حواء فيها .

فهل كان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، رخصة في رواية الكذب ، وترويجه ، وإشغال العقول والقلوب به ، وتربية النفوس عليه ؟؟؟؟؟

لم يسأل أحد نفسه كيف يرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحمل الكذب ، وفي روايته وإشاعته ، وهو القائل كما في صحيح مسلم : " كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع "

ورجعت إلى ما قال العلماء الثقات في شرح الحديث الأول " وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج " فما وجدت أحدا منهم قال إن الحديث رخصة في الرواية المخلاة عن بني إسرائيل ، أي رواية كل ما قيل وحكي وروي وإن كان بيّن الخطأ ، واضح البطلان ، تأباه بدائه العقول ، وترفضه وقائع التاريخ ، وينبو عن تاريخ تطور المعرفة والعلوم .. ؟؟؟!!!

ومع هذا البيان الواضح من شراح سنن أبي داود وصحيح مسلم رحمهم الله ، إلا أننا نجد كتب التفسير والتاريخ والأدب محشوة بكثير من الحكايات الإسرائيلية المنكرة ، أو المنسوبة زورا إلى بني إسرائيل ، وربما حاول بعضهم أن يجد سندا إسلاميا لهذه الروايات فقصها ولصقها عمدا بسيدنا ابن عباس !!

ومن المؤسف أن نقول أن عقلنا المجتمعي العام وقع وما يزال ضحية هذا الكم الهائل من هذه الروايات ، فعششت وباضت وفرخت فيه . وقد وجدت من طبقة " القصاص " عموما حاملا مشوقا ، ينشر تلك الفصول من " الجهل المقدس" باسم الإسلام وفي مساجد المسلمين . كانت حلقات القصاص في المساجد تشكل بديلا للمنتديات أو المسلسلات أو أصحاب السير الشعبية يحكون للناس عن عنترة أو عن أبي زيد الهلالي ..

وقبل أن تأخذ أحد الحمية فيبادرني أحد بالإنكار ، أحب أن أخبركم أن سيدنا علي رضي الله عنه طرد جميع القصاص من مسجد البصرة ، وما ترك فيه غير الحسن البصري ، وما كان الحسن البصري رحمه الله قصاصا . وما زالت الحاجة ماسة إلى إسكات أصوات هؤلاء الذين أخرجهم سيدنا علي من المسجد . فقد كان خليفة راشدا فعله سنة مرضية .

أليس من حق أن يقال لمن يجلس وراء شاشة فضائية ويهذر .. دليلك من علم أو من عقل أو فاصمت . وعجب البعض من فعل سيدنا عمر عندما طلب شاهدا على قول من روى له حديث في الاستئذان ...

وما تزال الإسرائليات كحشوة سوء ، تثقل تراثنا ، وما تزال تغتال عقولنا وقلوبنا وضمائرنا ، وما يزال الذين يرون في حديث " حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" رخصة لرواية الكذب ، وحشوه في عقولنا ، وأن يرققوا به قلوبنا أو يستدروا دمعنا أو إعجابنا يغدون ويرحون على منابرنا يضخون الكذب والزور باسم الدين والإسلام صباح مساء ، وكلما رجعت إلى أحدهم بسؤال : مهيم ؟؟؟؟ قال لك متكئا : حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ..

ومن أجمل ما قرأت في توجيه الحديث الشريف أنه إباحة بعد حظر . فبعد أن نهى رسول الله عن مقاربة أدبيات بني إسرائيل عندما استأذنه سيدنا عمر أن يكتب شيئا من صحف بني إسرائيل . عاد في هذا الحديث فأذن في الرواية عن بني إسرائيل ، ولكن كما نص عليه أكثر الشراح ، النقل حسب قواعد النقل وأصوله وقواعده وضوابطه ..

ترى لو استعملنا المعايير العلمية النقلية لعلماء الأمة على هذا السيل من المرويات التي تلصق دائما على جدار " بني إسرائيل " وبرخصة حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، كم سنحذف أو سنسقط من مرويات المتهوكات والمتهوكين !!

صحتنا العقلية في خطر تحت مطرقة تراث تلمودي عافه حتى أهله .. فهل آن لنا أن نعاف أو أن نُفيق ؟؟؟

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 909