خطاب هذا الزمان

برحيل حاتم علي، عليه رحمة الله، فقدنا فارساً كبيراً في ميدان قليل فيه الفرسان..

رحل قبل أيام، في الأيام الأخيرة من العام المنصرم، فتذكرنا أعماله الرائعة، وتذكرت مقالة كتبتها عقب رمضان 1425 (عام 2004م) إثر عرض عمله العظيم: "التغريبة الفلسطينية". كتبت يومها مقالة بعنوان "سلمت يداك يا وليد سيف"، واختلط الأمر عليّ اليوم بين كتاباتي المنشورة وغير المنشورة، فقد كلّت ذاكرتي وماتت الذاكرة الإلكترونية بكارثة القرص الصلب التي نزلت بي قبل عشر سنوات (لعلي أحكي يوماً هذه الحكاية المؤلمة)، ورغم أني كنت أظن أني نشرتها لكني لم أجد شيئا منها على الشنكبوتية (الشبكة العنكبوتية)، ثم بحثت في أوراقي فوجدتها مكتوبة بخط اليد ولم أجد نسخة مطبوعة مما يدل على أنها لم تنشر. ووجدت أيضاً سطوراً غير مكتملة كتبتها في العام التالي عقب رمضان 1426 (عام 2005م) بعد عرض العمل العظيم الآخر: "ملوك الطوائف" بعنوان "مرة أخرى سلمت يداك يا وليد سيف". ودفعت بهذه الأوراق لابنتي الصغيرة سيرين لتطبعها..

وبالرغم من أن صاحب العمل الرئيسي في نظري هو صاحب الكلمات؛ وليد سيف، القلم الذي لا مثيل له في رسم صور تعيد الأحداث التي طواها الزمان إلى الحياة من جديد، فإن دور المخرج حاتم علي لا يقلّ أهمية، المخرج المبدع الذي كان صاحب دور مركزي في هذا العمل المتميز، وكذلك بقية الفريق.

لم أشاهد بقية الأعمال مع الأسف: صلاح الدين وصقر قريش وربيع قرطبة وعمر، وقليلاً ما أشاهد شيئاً، فالوقت أضيق من أن يسمح بذلك، لكن التغريبة كانت عملاً لا يُفوّت.

ويحمل هذا إلى الذاكرة أياماً خلت في الجامعة الأردنية والجمعيات الطلابية وجمعية العلوم الطبية التي كنت يوماً رئيساً لها، وحفلاتها التي نفّذنا فيها أعمالاً فنية جميلة، بداية بمسرحية قصيرة للكاتب والمفكر الكبير د. عماد الدين خليل عنوانها "القطيع"، ومسرحية قصيرة أخرى كتبها ونفذها الأخ الصديق المبدع د. ماهر أبو الحمص، الذي تألق بعد تلك الأيام في أعمال فنية مبدعة في الأردن؛ مسرحية "نور السلطان" ومسرحية "ثورة السنابل" وأعمال أخرى، ثم رجع بعد ذلك لمشوار الطب. ولا ننسى العمل الكبير: مسرحية "عالم وطاغية" التي شهدها جمهور الجامعة الأردنية على مسرح سمير الرفاعي في الجامعة ثم قصر الثقافة عام 1980، والتي كتبها العلامة الشيخ يوسف القرضاوي من وحي المحنة، ومثّل فيها طلاب الجامعة الأردنية وعلى رأسهم الأخ الصديق د. أحمد مرعي بدور الحجاج وكان يومها طالباً في كلية الطب، وكوكبة متألقة من طلاب الجامعة، وأخرجها المخرج المتقن "أشرف أباظة".

وكان لدينا حلم مع أخي ماهر، وهو بناء مسرح إسلامي، فجمّعت كل من وصلت له يداي من مسرحيات إسلامية، ما زالت تحتلّ نصف رفّ في مكتبتي. وأكمل د. ماهر أبو الحمص جزءاً من المشوار.

الفن الملتزم ساحة هامة لا ينبغي أن يغيب عنها المبدعون، لترسم قضايانا بلغة هذا الزمان.

فلم "الرسالة" العظيم وأعمال مصطفى العقاد رحمه الله أوصلت صورة الإسلام ونبيّ الإسلام صلى الله عليه وسلم لجمهور لا يقرأ كتب السيرة، وأعادت جهاد البطل عمر المختار إلى القلب والذاكرة.. وجابت بهذه الصور العالم كله.

وهكذا فعلت أعمال حاتم علي عليه رحمة الله..

"ملوك الطوائف" روت شطراً من تاريخنا لأمة لم تعد تقرأ كتب التاريخ.. ورسمت صورة يلتقي فيها الماضي بالحاضر.

و"التغريبة الفلسطينية" حملت قضيتنا أكثر مما فعلت مراكز الأبحاث الفلسطينية، ولكل دور، ورسمت صوراً لظلم المحتل وجهاد الشعب صارت محفورة في قلب وذاكرة كل من شاهد هذه الحلقات، وليتها تترجم للإنكليزية لتطوف العالم بقضيتنا الكبرى.

وحديثاً تألق العمل التركي الكبير؛ مسلسل "قيامة أرطغرل"، على شاشات البيوت وصار حديث الناس في كل مكان (رغم أني لم أشاهده مع الأسف لضيق الوقت في هذه المرحلة)، وتبعته أعمال أخرى.

وما زالت الثورة السورية تنتظر أعمالاً تسجل دماءها وتضحياتها وترسم آلامها وآمالها..

هذا ميدان تفتقده الأمة كثيراً في عصرنا.. هذا خطاب هذا الزمان..

رحم الله حاتم علي..

بورك قلم وليد سيف وبوركت عدسة حاتم علي

قراءة نقدية لمسلسل "التغريبة الفلسطينيّة" كتبت في شوال 1425 (2004م)

سلمت يداك يا وليد سيف.. سلمت اليد التي كتبت، والعقل الذي أبدع، والقلب الذي نبض بكلّ كلمةٍ خرجت من أفواه أشخاص هذه القصّة. بارك الله في القلم الذي كتبت به هذه السطور، والورق الذي احتضنها، والمداد الذي خططت به هذه القصة من دم شهداء هذه المسيرة الطويلة. وبوركت عدسة حاتم علي المبدعة التي جعلت القصة تدبّ فيها الحياة.

ورغم قناعتي أن أي عمل أدبي أو روائي عربي ليكون عملًا عظيمًا مؤثراً يستحقّ البقاء ينبغي أن يكون بالعربيّة وليس بالعاميّة، لكن لا يمكنني إلا أن أقول عن هذا العمل: التغريبة الفلسطينيّة، أنّه عملٌ عظيم. عندما اطلعت على بعض فصول هذا العمل لأول مرّةٍ عام ١٩٩٨، مكتوبة بخط يد المؤلف، رأيت فيه عملاً غير عاديّ، لكنّ حماسي له كان أقلّ بسبب لغته العاميّة وقناعتي التي ذكرت آنفًا، ولأنّني لم أقرأ العمل كاملًا بل بعض فصوله.

لكلّ زمانٍ لغة وخطاب، وهذه هي لغة وخطاب هذا الزمان.

"التغريبة الفلسطينيّة" هي رسالة مكتوبة بلغة هذا الزمان لتهزّ كل من يشاهدها، من أبناء هذه الأمّة يتذكر بها، إن كان نسي أو ضعفت ذاكرته، القضيّة التي تركت فيه ألف طعنة، فيتذكّر مع كلّ مشهدٍ جرحًا، ويعود يبكي هذه الجراح، ولعله يعزم أن يفعل شيئًا لقضيته، وهي رسالة تهزّ من يشاهدها من خارج هذه الأمة ليرى حقيقة الرواية التي زُيّفت له طويلًا، لأن المزيفين هم الرواة الأقوى والأعلى صوتًا، والرواة الحقيقيوّن لا يسمع لهم صوت. هذه الرسالة أعلى صوتًا من رسائلنا المعتادة، وستبلغ أسماع أناس لم تكن لتبلغهم رسائلنا السابقة: خطبنا وأحاديثنا وكتبنا، لأنها مكتوبة بلغة أهل هذا الزمان.

اليهود اختلقوا قصة أسموها "الهولوكوست"، واستمروا يروونها لكلّ سامع بكل لغة في كلّ أرض، حتى صدّقوها وجعلوا من حولهم يصدقونها. تحدثوا عنها الأحاديث وشغلوا بها الأمم، وكتبوا عنها المقالات والأبحاث المزيفة والكتب بل والموسوعات (توجد فعلًا موسوعة كاملة اسمها موسوعة الهولوكوست). ثم كتبوا عنها الروايات وصنعوا عنها أفلامًا لا تحصى، حتى استطاعوا أن يطبعوا الأكذوبة الكبيرة في ذاكرة هذا العالم طبعًا، ويبقوها ماثلةً دائماً أمام أبصارهم وضمائرهم، وكلما كادت الصورة تبتعد عنهم قليلًا عاجلوهم بعملٍ جديد ينشط ذاكرتهم.

أما أصحاب الملحمة الذين عاشوا المأساة الظالمة الواضحة الباهرة، بفصولها الطويلة التي لو رويت لا يختلف العقلاء المنصفون على عدالتها، فغير قادرين حتى الآن أن يجعلوها ماثلة أمام أنظار العالم بهذا الوضوح، ولا قادرين على إيقاظ ضمائر العالم بها.. ولا حتى إبقائها تخفق في قلوب أبناء الأمة الإسلاميّة، الذين هم أصحاب أيضًا لهذه القضيّة وللأقصى الأسير.

كتب وليد سيف قصة جميلة مؤثرة تُجْمل الحكاية الطويلة. رسمها في أشخاص جسّدوا أجزاء كثيرة من ملحمة الشعب الفلسطيني. رسم الصورة بكل أجزائها بأمانة وصدق؛ فرسم الصدق والنبل والشجاعة، كما رصد بعض مشاهد النذالة والتخاذل والأمراض الاجتماعية التي لا يخلو منها مجتمع، فكانت صورة واقعية أمينة مقنعة وليست صورة حالمة كاذبة. وصوّر في أحداث القصة تناقضات اجتماعية موجودة بين الريف والمدينة وغير ذلك، وعالجها على لسان أبطال القصة معالجة تصلح أن تكون مقدمة لمعالجة اجتماعية علمية حقيقية لهذه التناقضات. وتطرّق لمنعطفات فكرية وسلوكية مرّ فيها شباب هذا الشعب في رحلة شتاتهم، وعالجها أيضاً في أحداث القصة وحوار أشخاصها بلمسات سريعة لكنها غاية في العمق والتأثير.

وتعامل الكاتب بحكمة وفطنة مع المناطق الصعبة، فسكت في روايته الصادقة الشاملة عن بعض الكلام كما سكتت شهرزاد عند الصباح عن الكلام المباح. كمن يلتقط صوراً لطريق فيه حجارة، فيستدير ويرتفع وينخفض بعدسته لتتوارى الحجارة خلف شجرة أو وراء أكمة، وتخرج الصورة دون أن تظهر فيها الحجارة، لكن كل من سار على هذا الطريق سيتذكر هذه الحجارة وهو ينظر إلى هذه الصورة وسيراها في ذاكرته في مواقعها.

وتألق قلم صاحب الرواية وفكره في العبارات العظيمة التي يقرأها راوي القصة "عليّ" بين مشاهد الرواية، التي حملت رؤية ناقدة، حللت الأحداث التي مضت، والأسباب المؤدية للكارثة الفلسطينية.

وفي أحداث حرب حزيران 1967 كان موقف أبي صالح في المخيم، بالدعوة إلى التوقف عن المزيد من الهجرة، رسالة ضخمة لو فهمت مبكراً لغيّرت وجه النكبة الأولى عام 1948.

وتنتهي رواية هذا الجزء من التغريبة الفلسطينية بمشهد كبير، رسمته كلمات وليد سيف مع عدسة حاتم علي وشخصه أيضاً، عندما يهرول رشدي تاركاً المخيم إلى المغارة ويصلها لاهثاً، فيميط الحجارة عن بندقية أبيه الشهيد، التي حملها خاله الشهيد، ويمسك بها معاهداً أباه الذي مضى والأمة التي تنتظره في المخيم.. هذا هو الطريق..

وثمة ملاحظاتٍ ليست انتقاصًا ولا تقليلًا من شأن عملٍ هو عظيمٌ بكلّ المقاييس، بارك الله بكلّ من ساهم فيه. كان جلّ الكلام منصبًّا على النّص لأنني دائمًا أرى في النص العنصر الأول الأهم في أي عمل روائي.. وليست العناصر الأخرى قليلة الأهمية بالتأكيد، فإخراج هذه الحلقات هو الذي جعل منها قطعة فنية بديعة مؤثرة. الإخراج والإنتاج والتصوير والمؤثرات أمور تغير وجه العمل، لكن حقيقته تبقى نصّه. لست ناقدًا سنمائيًّا لكنها رؤية بسيطة للعمل في جوانبه الفنية، في هذا العمل كان الإخراج عظيماً وجميلًا، ولكن بصراحة لا تقصد الانتقاص، كان يمكن أن ينفق عليه أكثر وأن يكون أغنى. تصوير المشاهد، والموسيقى التصويريّة، ومؤثرات المشاهد الكبيرة، وحجم الخلفيات وأعداد مجموعات الناس، كل ذلك كان يمكن أن يكون أضخم وأكبر تأثيرًا. مخيم على مرمى البصر أكثر تأثيرًا من بضع خيمات. المخيم البلدة ذو الطريق الواحدة الكبيرة والمشهد المتكرر كان يمكن أن يكون مدينة من بيوت الزنك بمشاهد بعيدة واسعة تقنع المشاهد بحقيقتها. قوافل الهجرة تحتاج إلى عشرات أضعاف الناس يحتشدون للقافلة. مشاهد القصف والتدمير واقتحام القرى كانت تستحق إنفاقًا أكثر لتهزّ أكثر. دير ياسين كانت تستحق حلقة كاملة (من السيناريو) ليخرج من رآها بصدمة يفهم منها جزءاً كبيرًا من حيثيات هذه الهجرة الأليمة التي شكلت بذاتها الجزء الأكبر من الكارثة.

عمل ناجح بكل المقاييس بارك الله في كل من قدّم شيئًا فيه، ولعله يكون بداية لسلسلة أعمال تعيد رواية هذه الحكاية.

لدينا قضية فيها ألف قصة وملحمة. ما سمعته في صغري من أحاديث الناس الذين هاجروا وقت اغتصاب فلسطين وقيام دولة الكيان الصهيوني يكفي أن يملأ قصصاً وروايات طويلة.

ليت هذا العمل يكون فاتحة لأعمال أخرى تكمل بلاغ هذه الرسالة. ولتنتج نسخة منه على أقراص مدمجة تسوّق في كل مكان.

وأقترح إنتاج نسخة أخرى من هذا العمل يكتبها الدكتور وليد سيف مختصرة لفلم يحكي نفس الرواية في ساعتين أو ثلاث وينتج عملاً ضخماً يخرجه حاتم علي ويعمل فيه أفضل الممثلين وأبرع فنيّي هذه الصناعة، ويدبلج بالإنكليزية وبكل لغات الدنيا وينتشر في أرجائها، ليسمع العالم منه حقيقة هذه الرواية التي زُيّفت طويلاً.

مرة أخرى.. بورك قلم وليد سيف وبوركت عدسة حاتم علي

كلمات لم تكتمل حول مسلسل "ملوك الطوائف" كتبت في شوال 1426 (2005م)

"ملوك الطوائف" ليست مجرد حكاية تروى، ولا مجرد حقبة مضت، بل هي قصة أمة..

مرة أخرى.. أبدع وليد سيف في الرواية.. وأبدع حاتم علي في المشهد..

في مشاهد ترسم التاريخ القديم، وتكتب التاريخ الجديد، ويتعالى فيها أنين أمّة خلف هذه المشاهد، يختلط معه صوت نشيد حزين، لعله صوت التاريخ الذي يبكي معنا..

جاؤوا بالرواية القديمة في يومٍ تصنع فيه الرواية الجديدة. أسمعونا حكاية ملوك الطوائف القديمة ونحن نعيش حكاية ملوك الطوائف الجديدة..

نشاهد العار القديم في الحلقة اليومية من المسلسل، يتبعه العار الجديد في نشرة الأخبار التالية للمسلسل. صفحات الأمس تذكرنا بصفحات اليوم. لا توجد حقبة، في تاريخنا الطويل المليء بكل ذروة وحضيض، تنطبق على حال اليوم أكثر من هذه الحقبة: حقبة ملوك الطوائف..

ألا ندعو إلى مؤتمر قمة عربي إسلامي تخصص جلساته لمشاهدة هذه الحلقات، لعلها تكون أكثر نفعًا للحاضرين ولرعاياهم..

وللحديث بقية..

وسوم: العدد 912