مأساة العصر لا تفارق ذاكرة السوريين

يتحدث التاريخ عن نيرون الذي أحرق عاصمته روما قبل أكثر من ألفي عام، ليتمتع بمنظر الحريق، وما ندري نصيب هذه الحكايات من الخيال ومن الواقعية، لكن سيتحدث التاريخ حتى بعد ألف عام عن سورية، وأنها مرّت بفترة نظام حكم انعدمت عنده القيم والإنسانية والأخلاق، وتجرد من أي ضمير أو ولاء للشعب أو الوطن أو الأمة، واستطاع حكامها التغول في دماء شعبها، ومدينة حماة أكبر مثال على ذلك وما زالت تنتظر العدالة.

المجزرة البشعة التي سميت ب(مأساة العصر).

في الثاني من شباط/فبراير من كل عام، تعود إلى أذهان السوريين ذكرى المجزرة التي أدخلتهم إلى حجرات الخوف والرعب لمدة 38 عام، وكان السوريون يتناقلون أحداث تلك المجزرة المروعة، التي صنفتها منظمة العفو الدولية على أنها كبرى مجازر القرن العشرين، بصمت وهمس حتى اندلعت الثورة السورية.

وعلى الرغم من أن هذه المجزرة التي وقعت في حماة قبل 38 عاماً، ما تزال ذكراها المروعة ماثلة في أذهان السوريين وخاصة أهل حماة، فإن جرائم الأسد الابن التي يمارسها منذ عام 2011 طغت عليها، وبات السوريون والعالم يشاهدون ما جرى في حماة من خلال المذابح التي عمت سورية كلها.

وكان للصور المرعبة والفظائع التي ارتُكبت في أثناء تلك المجزرة، الأثر الكبير على السوريين، ما جعلهم يعيشون في خوف دائم من النظام حتى اندلاع الثورة.

شهود على المجزرة يروون حكايات الرعب التي عاشوها

لقد نقلت "منظمة العفو الدولية" والعديد من وكالات الأنباء والصحف شهادات عدد من الأشخاص عاصروا المجزرة وكانوا شاهدين على ‏عمليات القتل الجماعي والتعذيب.

فقد روت (مها موسى) البالغة 50 عاماً من العمر والمقيمة في لندن "أن عناصر ميليشيا المقبور حافظ الأسد (سرايا الدفاع التي يقودها مجرم الحرب رفعت الأسد شقيق المقبور حافظ الأسد، والوحدات الخاصة التي يقودها مجرم الحرب علي حيدر) احتلت ‏منزل أسرتها، حيث تمركز القناصة على السطح"، مشيرة إلى أن "عائلتها لم تستطع سحب جثة ‏جدتها الموجودة خارج البيت كي لا تنهشها الكلاب".‏

وعقب هجوم عام 1982، اعتُقل عم مها عقب اتهامه بالانتساب لعضوية "جماعة الإخوان ‏المسلمون"، وعلى الرغم من نفيه للتهم الموجهة إليه، فقد عُذب وقُتل في الحجز، وعندما أُعيد إلى ‏أهله جثة هامدة، كانتا عيناه قد اقتلعتا ونُزعت أظافر يديه حسب وصفها.

واستذكرت (مها) كيف قُتل حوالي 60 شخصاً خلال إحدى الهجمات التي استهدفت مسجد مسعود ‏في المدينة قبل أن تقوم قوات الأمن ببتر أصابع أيديهم ورصفها على طول جدار المسجد.

وقالت مها "وعقب مضي ما يقرب من سنتين على المذبحة، لم يتجرأ أحد على إزالة الأصابع ‏المقطوعة من مكانها؛ فلقد كان الجميع مرعوباً إلى درجة لا توصف".

وأما (عبد الهادي الراواني) الذي كان موجودا في حماة عند ارتكاب المجزرة، ويقيم في الخارج، قال: ‏‏"في اليوم العاشر، غادرت المنزل مرة أخرى، غير أنني صُدمت مما رأيته من جثث، فما كان مني ‏إلا أن قفلت راجعاً إلى البيت".

وأضاف "في الأسبوع الثالث من الهجوم على حماه، دعا الجيشُ السكان إلى التوافد على مهرجان ‏جماهيري حاشد تأييداً للنظام، مشيرا إلى أن قوات الأمن التابعة لميليشيا أسد قامت بقتل أعداد كبيرة ‏ممن آثروا البقاء داخل منازلهم بدلاً من المشاركة في تلك التظاهرة".

وتابع عبد الهادي "يشبه ما يحدث في سورية هذه الأيام أحداث حماه عام 1982؛ حيث يطالب ‏الشعب بالحرية، ولكنه يُجابه بقمع النظام".

عمر القاضي (أبو زيد)، أحد أبناء مدينة حماة، وأحد الذين قاوموا الهجوم، روى لـ"الخليج أونلاين" الأحداث وكان عمره آنذاك 16 عاماً فقط، يقول: "في منتصف ليل الثاني من فبراير، خرج أئمة المساجد ينادون عبر المآذن للدفاع عن المدينة التي ينوي أن يستبيحها النظام".

يضيف: "قاتلْنا النظام أسبوعاً كاملاً حتى نفاد الذخيرة، كبّدنا النظام خسائر وحاولنا عدم التسبب في قتل المدنيين، لكن النظام ضرب المدينة بالمدفعية والطائرات دون رحمة وعشوائياً، يبدو أنه كان يريد أن يجعل حماة عبرة لسوريا كلها".

ويتابع قائلاً: "لم أندم على ما فعلت، كنت أجابه نظاماً مجرماً طائفياً، عزم على استباحة المدينة دون رحمة، كان هذا جلياً عندما قتل النظام وفد المدينة الذي ذهب للأسد الأب؛ لكي يحل جميع الأمور العالقة معه".

ذُبِحت بصمت

الصحفي البريطاني الشهير روبرت فيسك، زار المدينة المنكوبة، ودُهش حين قال له أحد ضباط الأسد ضاحكاً: لقد "بقي أقل من الذين قتلناهم"، يقول: "في حماة منذ عدة أسابيع، تم قمع الانتفاضة الشعبية بقساوة نادرة في التاريخ الحديث.. لقد غزا مجرمي الحرب (المقبور حافظ وشقيقه مجرم الحرب رفعت الأسد) المدينة بمثل ما استعاد السوفييت والأمريكيون برلين، ثم أجبروا من بقي من الأحياء على السير في مظاهرة تأييد للنظام".

مها عربو، التي كان عمرها حينها 12 عاماً، والتي فرّت مع أهلها من حي الكيلانية الذي محاه نظام الأسد من الوجود، تقول في شهادتها لـ"الخليج أونلاين": "صباح الثاني من فبراير، بدأنا نسمع أصوات الرصاص والقصف، لم نخرج من بيوتنا حتى يوم العاشر من فبراير؛ بسبب المعارك وأصوات الانفجارات التي لم تتوقف. بحثنا عن أبي وأخي اللذين ظننا أنهما مختبئان في مكان ما، فوجدناهما مقتولين عند باب عمارتنا".

تضيف قائلة: "لا أنسى بعد كل تلك السنين، جثتيهما وجثث العشرات التي مشينا عليها حتى استطعنا الوصول إلى إحدى الطرق الفرعية التي نقلتنا إلى الريف ومنه إلى حلب، شيء لا يصدقه العقل، كانت جثث الأطفال والنساء تنهشها الكلاب، كانت الدماء بقعاً واسعة لم يستطع المطر الهاطل منذ يومين أن يمحو بعض آثارها، كان مشهد المدينة فظيعاً، ليس فيه سوى الدمار والدماء".

مها، السيدة التي على وشك أن تصبح جدة الآن، روت لـ"الخليج أونلاين" عن بعض المجازر التي سمعتها من ذويها الذين نجوا حينها من حصد الرصاص، تقول: "في منطقة سوق الطويل، يقع مسجد يسمى (الجامع الجديد)، في داخله وقعت مجزرة رهيبة بعد أربعة عشر يوماً من الأحداث، كان الناس قد بدأوا يخرجون قليلاً إلى الشوارع، طلب الجنود من الأهالي التوجه نحو سيارات الخبز في طرف الشارع، أسرع الأطفال، وكانوا بالعشرات، حملوا الخبز، وهم يعودون اعترضهم الجنود وطلبوا إليهم الدخول إلى الجامع الجديد، وهناك فتحوا عليهم النار وقتلوهم جميعاً".

تتابع: "كان هناك فِرق موت تجوب المدينة، يقتلون، ينهبون، يغتصبون، قتلوا طفلاً وليداً أمام أسرته في حي الحاضر؛ كي لا يكبر ويصبح من الإخوان (الإخوان المسلمين)، قتلوا جريحاً وأخرج أحد الجنود العلويين قلبه"، تؤكد بحزن أن "هذه القصة ليست أسطورة؛ بل حقيقة، والضحية يدعى (سمير قنوت) من حي الحاضر".

تختم مها حديثها لنا بالقول: "على مدى 27 يوماً، ارتُكبت مجازر لا يمكن عدها ولا يمكن توثيقها، إلا عبر الشهود الذين عاشوها.. باختصار، المدينة ذُبحت بصمت".

وتكاد لا تخلو عائلة في حماة إلا وفيها قتيل أو مفقود أو مهاجر جراء تلك المجزرة، هذا بالإضافة إلى غضب النظام على هذه المدينة وأهاليها؛ إذ قام بعد تلك المجزرة بتهميشها والتشديد على أهاليها ومعاملتهم كخونة ومنبوذين.

ويكفيك حتى تتصور هول تلك المجزرة أن تعرف أن أهالي حماة عندما يروون لك قصةً ما، سواء كانت ولادة أو وفاة أو زفافاً، أو أياً كانت القصة، فإنهم يقولون إنها وقعت قبل الأحداث أو بعدها بفترة كذا.

وأكدت "اللجنة السورية لحقوق الإنسان" أن جريمة مجزرة حماه، مثلها مثل بقية المجازر والانتهاكات ‏الخطيرة لحقوق الإنسان، لا يُمكن أن تسقط بالتقادم، ولا يمكن للجناة أن يفلتوا من العقاب". ‏

يشار إلى أن جرائم نظام بشار الأسد التي يمارسها ضد الشعب السوري منذ عام 2011 لا تقل ‏بشاعة عن "مجزرة حماة" بل تفوقت عليها.

الحملة البربرية على حماة

بدأت الحملة البربرية الهولاكية النيرونية الأسدية يوم الثاني من شباط/فبراير عام 1982 بتطويق مدينة حماة وقصفها بالمدفعية والدبابات من مطار حماة العسكري وجبل زين العابدين المطل على المدينة. وبحسب تقرير للسفارة الأمريكية في دمشق، تم قصف الأجزاء القديمة للمدينة من الجو، لتسهيل عملية دخول الدبابات، واجتياحها براً من قبل ميليشيات أسد وفي مقدمتها "سرايا الدفاع".

وعلى الرغم من عدم وجود إحصائية دقيقة لعدد الأشخاص الذين قُتلوا خلال "مجزرة حماة"، بسبب التعتيم الإعلامي نتيجة قطع الاتصالات عن المدينة بالكامل، وعدم السماح بالدخول والخروج منها، إلا أن "اللجنة السورية لحقوق الإنسان" أكدت أن عدد الضحايا يتراوح بين 30 إلى 40 ألف نسمة.

ووفقا لبعض التقارير يتراوح عدد المفقودين في "مجزرة حماة" ما بين 10 و15 ألفا، حيث لم يتم العثور على أثارهم بسبب دفن الضحايا في مقابر جماعية، في حين بلغ عدد المهجرين نحو مئتي ألف مدني من سكانها.

وذكر تقرير لمنظمة العفو الدولية "امنستي"، أن نظام الأسد نفذ عملية إعدام جماعي لأهالي حي الحاضر، مشيرة إلى أن النظام استخدم غاز "السيانيد" السام، حيث تم توجيهه إلى بيوت اختبأ فيها بعض المشاركين في التصدي للقوات المهاجمة، ما أدى إلى مقتل جميع سكان تلك المنازل.

وأسفرت الحملة العسكرية أيضاً، عن هدم كلي لأحياء "العصيدة، الشمالية، الزنبقي والكيلانية" أما حيي "بين الحيرين والسخانة" فقد بلغت نسبة الهدم فيهما قرابة الثمانين في المئة، فيما بلغت نسبة الدمار في الأحياء الواقعة على أطراف المدينة مثل حي "طريق حلب" نحو ثلاثين في المئة، وتم هدم وتدمير حوالي 63 مسجدا و3 كنائس، والكثير من المناطق التاريخية والأثرية.

المصادر

 

*أورينت-2/2/2019

*الخليج أونلاين-2/2/2020  

*عربي بوست-3/2/2019  

*الحرة-2/2/2020  

*تلفزيون سورية-3/2/2019

وسوم: العدد 914