الأسباب والمسببات في القرآن الكريم

د. عبد الرحمن الحطيبات

دعوة للتأمل وإحسان العمل

د. عبد الرحمن الحطيبات

مشرف اللغة العربية

مدارس الجامعة الملك فهد للبترول –  الظهران

[email protected]

لا يمكن أن يوجد شيء في هذا الوجود ما لم تتحقق وسائله ومتطلباته المسبقة . والله وحده هو السبب بلا مسبب ومن أمثلة السببية في الطبيعة التي أوجدها الله عز وجل أن نزول الماء بسب السحاب، وخروج النبات بسبب الماء، وترتبط الأحوال الإنسانية بأسبابها , ولا شك أنه تعالى قادر على إنزال الماء من غير السحب وخلق الثمار من غير وسائط…إلا أن قدرته على خلقها تنافي قدرته عليها بواسطة خلق هذه القوى المؤثرة والقابلة في الأجسام…وإنما أجرى الله تعالى العادة بأن لا يفعل ذلك إلا على ترتيب ونجد كذلك أن الله تعالى ربط الثواب والعقاب بأسبابهما، فالقتل العمد سبب للقصاص، والسرقة سبب لقطع اليد، والزنا سبب للجلد أو الرجم، والاستغفار سبب للتوبة، والإيمان سبب لدخول الجنة، والكفر سبب لدخول النار، ونلاحظ أن هذه الأسباب إنما هي أسباب جعلها الله وليست ذاتية تتولد بذاتها ،بل أن هناك أسباباً وما ينتج , أو يرتبط بهذه الأسباب ، ولله جلت قدرته أن يفصل هذا الارتباط، فيوجد المسبَّب دون سبب، كما هو الشأن فـي المعجزات ولكن إرادته عز وجل تحث الإنسان على التدبر والتفكر والعمل الجاد والسعي الحثيث وربط الأسباب بمسبباتها والنتائج بمقدماتها.

مدلول كلمة السبب :

وردت كلمة (سبب) في القرآن الكريم في ثمانية مواضع، والسبب في اللغة: الحبل، وقيل لكل شيء وصلت به إلى موضع أو حاجة تريدها: سبب، والأسباب: الوُصُل، من الاتفاق على شيء واحد،وقيل السبب: كل شيء يتوصل به إلى غيره1 . وبهذا المعنى اللغوي للسبب ورد في قوله تعالى : (وآتيناه من كل شيء سبباً فأتبع سبباً) فالمعنى : آتاه الله من كل شيء معرفة وذريعة يتوصل بها فاتبع واحداً من تلك الأسباب2 .

وقال الزمخشري : السبب ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة3 . فالمنظور إليه في كون الشيء سبباً هو كونه موصلاً إلى غيره سواء كان هذا الشيء مادياً كآلة من الآلات المادية أو كان معنوياً كالعلم والقدرة . هذا ويرد التعليل ويقصد به السبب ويكون التعليل بالاسم ، والجملة ، كما يكون بالحرف.ومن حروف المعاني التي تفيد السببية , الباء و(فاء) السببية , و(الكاف) التي تفيد التعليل ، سواء أقرنت بـ(ما) الزائدة ، أو المصدرية ، أو جردت منهما, ولام التعليل ، أو لام المفعول له ، كما يسميها ابن جني ، و (إذ) بمعنى التعليل ، سواءً أكانت ظرفاً ، أو حرفاً ولا تخلو (كي) من معنى التعليل ، سواء أكانت جارة ، أم ناصبة للمضارع, و إذا كانت (لعل) فى كلام الله – تعالى - ، أفادت التعليل المحض ، وإذا كانت في كلام المخلوقين ، أفادت الرجاء والطمع.

لكل شيء سبب :

 كل شيء يحدث في الوجود لا بد له من سبب سواء أكان هذا الحدث يتعلق بالجماد أو بالنبات أو بالحيوان أو بالإنسان أو بالأجرام السماوية أو الظواهر الكونية المادية المختلفة . فقانون السببية أي ربط المسببات بأسبابها والنتائج بمقدماتها ، هذا القانون عام شامل لكل ما في العالم ولكل ما يحصل للإنسان في الدنيا والآخرة . وقد دلّ القرآن الكريم على ذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ( فليس في الدنيا والآخرة شيء إلا بسبب ، والله خالق الأسباب والمسببات )1. فمن الأسباب المادية قوله تعالى : (وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ)2 . ومن الأسباب المعنوية : (إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً)3 . كما سنبينه فيما بعد .

والقرآن الكريم ـ كما يقول ابن القيم ـ مملوء من ترتيب الأحكام الكونية والشرعية والثواب والعقاب على الأسباب بطرق متنوعة ، فيأتي بباء السببية تارة كقوله تعالى : (كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية) ، ويأتي باللام تارة كقوله تعالى : (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم) ويأتي بذكر الوصف المقتضي للحكم تارة كقوله تعالى : (ومن يتقِ الله يجعل له مخرجاً)4 ، فالله تعالى اقتضت حكمته ربط المسببات بأسبابها5 .

 وعليه تبدو العلاقة السببية واضحة في كتاب الله، فالمكوَّنات مرتبطة فيما بينها، فلا يوجد الشيء إلا بوجود سببه، حتى العلاقات الإنسانية والاجتماعية ترتبط بعلاقات سببية، وكذلك الأحكام الشرعية.

إن هذا الكون وما فيه هنا وهناك من أسباب ومسببات ونتائج تسبقها مقدمات .. لا يمكن أن يكون عفوياً أو يحدث مصادفة وما هو في الحقيقة إلا حدث يجهل الناس أسبابه .. والجهل بالشيء لا يعني عدم وجود ذلك الشيء .. وتوضيح هذه الحقيقة أنَّ هذا الكون الواسع العجيب المدهش الذي خلقه الله تعالى : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ)7 .

هذا الكون يجري بموجب أسباب ومسببات تكوّن قانوناً عاماً هو في غاية الدّقة والإحكام والشمول بحيث لا يخرج عنه شيء ولا يفلت منه مخلوق .. يحكم كل شيء من المخلوقات بلا استثناء : من أصغر ذرّة إلى أكبر جرم ، ومن الجماد والنبات بأنواعه إلا ذي الروح بأنواعه ، ومن حركة الذّرة في مادتها التي لا نشعر بها إلى حركة الريح العاصف التي تقلع الأشجار وتخرب البيوت .. فالكل خاضع ومنقاد لهذا القانون الرهيب لا يستطيع منه تفلتاً ولا خلاصاً .. وهذا الخضوع التام من الجميع ما هو في الحقيقة إلى خضوع للملك القوي الجبار واضع هذا القانون وخالق هذا الكون ، وعلى هذا دلّ القرآن الكريم ، قال تعالى : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)8 ، وقال تعالى : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)9 . وهذا القانون الإلهي العام المسمى في القرآن الكريم (سنة الله) لا يقبل التبديل ولا التحويل .

وقد ذكرت كلمة (سنة الله) وأنها لا تتبدل ، (وسنة الله) أو هذا القانون الإلهي العام يقوم على الأسباب والمسببات وربط النتائج بالمقدمات على نحو هو في غاية الدّقة والصرامة والاطراد .. والإنسان ـ وهو جزء من هذا الكون ، ولكنه جزء ممتاز ـ يخضع لهذا القانون في جميع حركاته وسكناته وتقلبات أحواله ... كما تخضع له أيضاً الأمم في علوها وانخفاضها وسعادتها وشقائها وعزها وذلها وبقائها وهلاكها .. وهذا الخضوع من الأفراد والأمم في جميع أحوالهم لهذا القانون الرهيب يساوي بالضبط خضوع الأحداث الكونية المادية لهذا القانون ، فكما أنّ سقوط تفاحة من شجرة هو نتيجة حتمية لأسباب معينة أدّت إلى هذا السقوط ، فكذلك يعتبر سقوط دولة أو هلاك أمة نتيجة حتمية لأسباب معينة أدّت إلى هذا السقوط ..

وهذا ما تقضي به سنّة الله العامة التي لا تقبل التخلف ولا التبديل : (سنّة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنّة الله تبديلاً) ، وكل الفرق بين الأحداث الكونية المادية وبين الأحداث الاجتماعية هو أن أسباب الأولى واضحة بيّنة مضبوطة إذا عرفناها أمكننا الحكم بدقة على نتائجها وميقات هذه النتائج ، فالماء مثلاً ينجمد إذا بلغت درجة برودته كذا درجة ، ويصل إلى الغليان إذا وصلت درجة حرارته إلى كذا درجة وبعد كذا من الوقت ، وهكذا .. أما أسباب الأحداث الاجتماعية فهي بمختلف أنواعها من سياسية واقتصادية وحضارية وعمرانية وغلبة ونصر وهزيمة وخذلان .. الخ ، أسباب دقيقة وكثيرة ومتشعبة ومتشابكة وقد يعسر على الكثيرين الإحاطة بها تفصيلاً .. ولكن مع هذا العسر يمكن للمتأمل الفاحص الدقيق أن يعرفها ويحيط بها علماً ، كما يمكنه الجزم بحصول نتائج معينة بناء على أسباب معينة وإن لم يمكنه الجزم بميعاد حصول هذه النتائج ، فنستطيع مثلاً أن نحكم على وجه الجزم واليقين بزوال حكم أو سلطان إذا وجدناه قائماً على الظلم والإرهاب وإن كنا لا نستطيع تحديد وقت زواله على وجه الدقة والضبط كما نحدد ميعاد غروب الشمس أو شروقها ..

ومن أجل هذا الفرق بين الأحداث الكونية المادية وبين الأحداث البشرية يغفل الناس كثيراً عن سنة الله في الاجتماع البشري وفي تصرفات وسلوك الأفراد والأمم ، ويظنون أن أمورهم لا تخضع كما تخضع الظواهر الكونية لقانون الأسباب والمسببات ، ويقوي هذا الظن غير الصحيح في نفوسهم أنهم يرون ـ في الظاهر ـ أسباباً متشابهة في دولتين أو أمتين ، ولكن أحوالهما مختلفة ، فيقولون : أين هو القانون العام الذي تزعمون؟ وهذه الأسباب فيهما واحدة ولكن لم تؤد إلى نتائج واحدة؟ وفاتهم أن الأسباب تؤدي حتماً إلى مسبباتها إلا لمانع ، وأن المقدمات تؤدي حتماً إلى نتائجها إلا لعارض ، وهم لم يبصروا الموانع والعوارض ، كما لم يبصروا كل الأسباب والنتائج فتراكم الخطأ عليهم فلم يعودوا يبصرون ..

وسنّة الله بيّنتها آيات كثيرة في القرآن الكريم ، فنحن نجدها في آيات قصص القرآن وسيرة الأنبياء ، وما جرى لهم مع أقوامهم ، وفي أخبار الأمم السابقة وفي صراع أهل الحق مع أهل الباطل . ولو ذهبنا نعدّ هذه الآيات لألفيناها أكثر من آيات الأحكام ، فعلى ماذا يدل هذا؟ نعتقد أن هذه الكثرة من آيات القرآن التي جاء فيها ذكر (سنة الله ) ومعناها وتطبيقها ، تدل دلالة قاطعة على أهمية المعرفة بسنّة الله في الكون ووجوب فهوها من قبل المسلمين ، كما يجب عليهم فهم أمور العبادات التي تخصهم ، لأن الله عزّ وجلّ لا يخص بالذكر في القرآن الكريم إلا ما يلزم ذكره ويحتاج الناس إلى معرفته ، فإذا تكرر ذكر شيء دلّ ذلك على أهميته ، ولهذا جاء في هذه الآيات التي أشرنا إليها ما يدعو إلى التأمل والاتعاظ والافتكار في سنن الله ، كما جاء فيها دعوة صريحة إلى وجوب فهم سنن الله في الاجتماع البشري .

فمن النوع الأول قوله تعالى : (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ)1 . ومن النوع الثاني قوله تعالى : (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ)2 .

ولهذا نرى أن من الضروري جداً للمسلمين عموماً ـ الحكام والمحكومين ـ أن يتفهموا سنن الله في الاجتماع البشري لينجوا من الهلكة أو ليتخلصوا منها إذا وقعوا فيها وقد وقعوا فيها فعلاً ، وأن يعلموا أن هذا الفهم من لوازم الإيمان ومن فهم أحكام الإسلام3 )) .

الأسباب والمسببات بأمر الله :

وليكن معلوماً أن كون الشيء سبباً لغيره أو كونه مسبباً عن غيره ، هو من فعل الله تعالى وحكمه ، فهو تعالى خالق الأسباب والمسببات4 . ولولاه لما صار هذا الشيء سبباً لغيره ولا صار هذا الغير مُسبَّباً عنه . ومعنى ذلك أن السبب إنما يعمل ويستدعي مسبّبه بموجب سنّة الله ونفاذها .

المسببات تكون بأسبابها:

قال بعض الناس إن المسببات تكون عند وجود أسبايها ولا تكون بهذه الأسباب ، فالإحراق مثلاً يحصل عند وجود النار وليس بالنار . وهذا القول غير صحيح ، فالمسببات تحدث أو تكون بالأسباب الموجبة لها ، لا أنها تحدث أو تكون عند وجود هذه الأسباب . والأسباب إنما صارت أسباباً بما أودعه الله تعالى فيها من معاني السببية التي تستوجب نتائج معينة تناسب هذه المعاني ، وكل هذا بتقدير الله ومشيئته وسنته في خلقه . فالإحراق يكون بالنار ، فالنار هي سبب الإحراق ، والإحراق يكون بالنار لما أودع الله فيها من معاني الحرارة المستوجبة للاحراق ، لا أن الإحراق يحدث عند وجود النار .

والشبع أو الغداء يكون أو يحصل بأكل الخبز ونحوه لا عند الأكل ، والولد يخلقه الله في بطن أمه بإلقاء ماء الرجل في رحم امرأته لا أنه يخلقه عند هذا الإلقاء ، والنبات يكون بالبذر لا عند البذر . وإنما صارت المسببات ناتجة عن أسبابها لما أودعه الله في هذه الأسباب من معانٍ وقوى تستوجب هذه المسببات ، وسواء في هذه الأسباب المادية والمعنوية والمسببات عنهما ، كالإحراق الناتج عن النار ، فالنار سبب والإحراق مسبب عنها . وهذا في الأسباب المادية ومسبباتها ، وكذلك جعل الله تعالى الأشياء المعنوية أسباباً لنتائج معينة هي مسببات عنها ، فجعل الإيمان والأعمال الصالحة سبباً لرضوان الله وسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة . وجعل الاستغفار سبباً لمغفرة الله ورحمته ، وجعل الاختلاف المذموم والظلم من أسباب هلاك الأمم وهكذا ..

وقد ردّ ابن تيمية على من لم يعتبر الأسباب وينكر أن تكون مسبباتها ناتجة عنها ، فقال رحمه الله تعالى : (( ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل وهو طعن في الشرع أيضاً ، فالله تعالى يقول : (وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها) ، وقال تعالى : (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبيل السلام) ، وأمثال ذلك ، فمن قال يفعل الله تعالى عندها ، أي عند هذه الأسباب ، لا بها ، فقد خالف لفظ القرآن ، مع أن الحسّ والعقل يشهدان أنها أسباب ، ويعلم الفرق بين الجبهة والعين في اختصاص أحدهما بقوة ليس في الآخر ، ويعلم الفرق بين الخبز والحصى في أن أحدهما يحصل به الغذاء دون الآخر ))1 .

لا بدّ للأسباب من شروط وانتفاء الموانع :

وليكن معلوماً أن السبب إنما يستوجب مسببه إذا توفرت شروطه أي إذا تحققت شروط عمل هذا السبب وفعاليته واستدعاءه لمسببه . كما لا بد من انتقاء موانعه أي انتفاء الموانع التي تعيق عمل هذا السبب أو تسلبه فعاليته بحيث يصبح غير قادر على استدعاء مسببه . فالأكل مثلاً سبب للغداء والشبع واستدامة الحياة ، ولكن بشرط سلامة أعضاء الإنسان الضرورية لتلقي الطعام والاستفادة منه ، وانتفاء الموانع أي انتفاء العوائق التي تعيق عمل هذه الأعضاء في انتفاعها من الأكل .

والزرع سببه حرث الأرض وإلقاء البذر ، وشرطه صلاحية الأرض للإنبات وصلاحية هذا البذر للنبات وتوفر الماء الكافي وانتفاء الموانع من خروج النبات والثمر كانتفاء الآفات التي تهلك الزرع والثمر أو تمنع نموه وهكذا .. وقد ، صرّح غير واحد من العلماء بضرورة تحقق شروط السبب وانتفاء موانعه حتى ينتج هذا السبب مسببه ، فمن أقوالهم قول الفقيه الشاطبي : ( وأما إذا لم تفعل الأسباب على ما ينبغي ولا استكملت شرائطها ولم تنتف موانعها فلا تقع مسبباتها شاء المكلف أو أبى ، لأن المسببات ليس وقوعها أو عدم وقوعها لاختياره . وأيضاً فإن الشارع لم يجعلها أسباباً مقتضية لمسبباتها إلا مع وجود شرائطها وانتفاء موانعها ، فإذا لم تتوفر لم يستكمل السبب أن يكون سبباً شرعياً سواء علينا أقلنا إن الشروط وانتفاء الموانع أجزاء أسباب أم لا ، فالثمرة واحدة3 .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( فكل سبب فهو موقوف على وجود الشروط وانتفاء الموانع )4 . ثم قال ابن تيمية رحمه الله : ( فلا بد من تمام الشروط وزوال الموانع ، وكل ذلك بقضاء الله وقدره ، وليس شيء من الأسباب مستقلاً بمطلوبه بل لا بد من انضمام أسباب أخرى إليه ، ولا بد أيضاً من صرف الموانع والمعارضات عنه حتى يحصل المقصود ، فالمطر وحده لا ينبت النبات إلا بما ينضم إليه من الهواء والتراب وغير ذلك . ثم الزرع لا يتم حتى تصرف عنه الآفات المفسدة له . والطعام والشراب لا يغذي إلا بما جعل الله في البدن من الأعضاء والقوى5 .

وقوا ابن تيمية : ( وليس شيء من الأسباب مستقلاً بمطلوبه ، بل لا بد من انضمام أسباب أخرى إليه ) هذه الأسباب الأخرى هي التي يسميها البعض بالشروط ، وقد سماها ابن تيمية نفسه شروطاً في موضع آخر من كلامه1 . وكذلك أشار الفقيه الشاطبي إلى هذه التسمية بقوله : ( وسواء علينا أقلنا إن الشروط وانتفاء الموانع أجزاء أسباب أم لا )2 .

 الأسباب لا تعارض القضاء والقدر :

 أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن علي رضي الله عنه ، قال : كنّا في جنازة في بقيع الغرقد ، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكّس فجعل ينكت بمخصرته ثم قال : ما منكم من أحد ، ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنّة والنار وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة . فقال رجل يا رسول الله : أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فقال : من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة . فقال اعملوا فكل ميسّر أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة ، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ، ثم قرأ: (فأما من أعطى واتقى وصدّق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأمّا من بخل واستغنى وكذّب بالحسنى فسنيسره للعسرى)3 .

قال الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث : وفي هذا الحديث النهي عن ترك العمل والاتكال على ما سبق به القدر ، بل تجب الأعمال والتكاليف التي ورد الشرع بها وكل مُيسر لما خلق له لا يقدر على غيره4 .

ولقد أمر الله تعالى الناس بالدعاء والاستغفار وبغيرهما من الأسباب المؤدية إلى مسبباتها من تفريج الكروب وغفران الذنوب وتحصيل المقاصد ، ومن قال أنا لا أدعو ولا أسأل الله تعالى ولا أستغفره اعتماداً على الخطأ كان مخطئاً ؛ لأن الله تعالى جعل الدعاء ونحوه من العبادات أسباباً تنال بها مغفرته ورحمته وهداه ونصره . وإذا قدّر الله للعبد خيراً يناله بالدعاء أو بغيره من الأسباب لم يحصل ما قدره له بغير هذا السبب من الدعاء وغيره . وما قدره الله وقضاه وعلمه من أحوال العباد وعواقبهم فإنما قدره بأسباب تقع فيقع ما ارتبط بها من مسببات ، فليس في الدنيا والآخرة شيء إلا بسبب والله خالق الأسباب والمسببات5 .

الأسباب والتوكل :

يعتقد بعض الناس أن من تمام التوكل ترك الأسباب أن لا يحمل المتوكل الزاد في سفره للحج وفي غيره من الأسفار فيدخل إلى الصحراء بلا زاد ولا ماء اتكالاً على الله تعالى .

قال ابن تيمية رحمه الله في ردّه على هذا القول : ( وهذا القول وأمثاله من قلة العلم بسنّة الله في خلقه وأمره ، فإن الله تعالى خلق المخلوقات بأسباب ، وشرع للعباد أسباباً ينالون بها مغفرته ورحمته وثوابه في الدنيا والآخرة . فمن ظنَّ أنه بمجرد توكله مع تركه ما أمره الله به من الأسباب يحصل مطلوبه وأن المطالب لا تتوقف على الأسباب التي جعلها الله أسباباً لها فهو غالط )6 .

والحقيقة أن إسقاط الأسباب والإعراض عنها وعدم مباشرتها بحجة التوكل على الله تعالى يفضي بفاعل ذلك إلى مخالفة الشرع فإن الله تعالى قد أمر بالأخذ بالأسباب فمن أعرض عنها فإنه يعرض عما أمره الله تعالى به ، قال ابن القيم رحمه الله تعالى : ( والله أمر بالقيام بالأسباب فمن رفض ما أمره الله أن يقوم به فقد ضاد الله في أمره ، وكيف يحل لمسلم أن يرفض الأسباب كلّها؟ )7 .

الأخذ بالأسباب والتوكل على رب الأسباب

 إن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل ، بل إن التوكل نفسه من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب ويندفع بها المكروه ، فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل . ثم إن حقيقة التوكل الثقة بالله والطمأنينة به والسكون إليه فالتوكل ـ كما قال الإمام أحمد ـ هو عمل القلب ، ومعنى ذلك أنه عمل قلبي ليس بقول اللسان ولا عمل الجوارح1 .

وعلى هذا فالتوكل الشرعي الصحيح هو الاعتماد الكامل على الله والثقة بكفايته لعبده مع مباشرة العبد للأسباب المشروعة أو العادية التي جعلها الله مفضية إلى مسبباتها ، ويدل على ذلك الحديث النبوي الشريف : ( لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً ) رواه الترمذي2 .

ففي هذا الحديث الشريف دلالة على مشروعية العمل للكسب والأخذ بالأسباب ، فالطير لا يأتيها رزقها وهي في عشوشها بل بسعيها ، فقد ألهمها تعالى بالسعي لتحصيل رزقها فتخرج جياعاً وترجع بطاناً ممتلئة البطون شبعاً . وهكذا ينبغي أن يكون الصادق في توكله يباشر الأسباب للحصول على مقصوده ومطلوبه . وعن أنس أن رجلاً قال يا رسول الله : ( أعقلها ـ أي ناقته أو بعيره ـ وأتوكل؟ أو أطلقها وأتوكل؟ قال : اعقلها وتوكل ) رواه الترمذي3 .

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير . احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز .. )

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الحديث : قوله صلى الله عليه وسلم : ( احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز ) أمرٌ بالتسبب المأمور به وهو الحرص على المنافع وأمرٌ بالتسبب المأمور به وهو الحرص على المنافع وأمرٌ مع ذلك بالتوكل وهو الاستعانة بالله ، فمن اكتفى بأحدهما فقد عصى أحد الأمرين4 .

دعوة القرآن الكريم إلى السعي وإحسان العمل

 إن العمل الصالح شعار الإسلام وهدفه الأسمى, و رمز عظمة هذا الدين الذي أقام العدل ، وبسط الخير ونشر المحبة بين الناس. و هو عنوان الدعوة الإسلامية الخالدة التي أعلنها المنقذ الأعظم للبشرية سيدنا محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم فجعل العمل الصالح جوهرها وحقيقتها التي لا تنفصل عنه, وهو صلاح القلوب ، وسلامة النية ، وطهارة النفس ، وأصل التسامح والتعاون على البر والتقوى.

 لقد وازن القرآن الكريم بين التكالب على الدنيا وطلب الحياة الآخرة من خلال بناء حضارة خالدة نفذت إلى أعماق القلوب وأنقذت الإنسان من ضراوة المادة وخمول الرهبانية.

 لقد نظر القرآن إلى المادة فاعتبرها أداة استهلاكية لا غير ومنع من أن تكون هي الغاية للإنسان وندد بمن قصر همه على المعيشة المادية من طعام وشراب فقال تعالى : " ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون" سورة الحجر آية 2.

 ولنقرأ متدبرين عاملين مخلصين الآيات الكريمة التي أشادت بالعمل الصالح ، ورفعت من كيان الصالحين.

 قال اللّه تعالى: " ومن أحسن قولاً ممن دعا الى اللّه ، وعمل صالحاً وقال انني من المسلمين " ـ سورة حم السجدة : آية 32.

 وقال تعالى ": إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلاً " سورة الكهف : آية 6

 وقال تعالى ": من عمل صالحاً من ذكر وأنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ، ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون " سورة النحل : آية 66.

 وقال تعالى:" ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً " سورة النساء : آية 23.

 وقال اللّه تعالى" : والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً وعد اللّه حقاً ومن أصدق من اللّه قيلا " سورة النساء : آية , 21

وقال تعالى : " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً" سورة الكهف ,آية 110

               

1 ـ لسان العرب لابن منظور ، ج1 ، ص 43 .

2 ـ بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروز ابادي ، ج3 ، ص 169 .

3 ـ الكشاف , الزمخشري ، ج743 .

1 ـ مجموع فتاوى ابن تيمية ، ص 70 .

2 ـ سورة البقرة ، الآية 22 .

3 ـ سورة الأنفال ، الآية 29 .

4 ـ مدارج السالكين ، لابن القيم ، ج3 ، ص 498 ـ 499 .

5 ـ مدارج السالكين ، لابن القيم ، ج3 ، ص 478 .

7 ـ سورة السجدة ، الآية 7 .

8 ـ سورة يس ، الآية 38 .

9 ـ سورة آل عمران ، الآية 83 .

1 ـ سورة يوسف ، الآية 111 .

2 ـ سورة آل عمران ، الآية 137 .

3 ـ انتهى الاقتباس من مقالتي (( القانون الرهيب )) التي أشرت إليها .

4 ـ مجموع فتاوى ابن تيمية ، ج8 ، ص 70 .

1 ـ مجموع فتاوى ابن تيمية ، ج8 ، ص 175 .

3 ـ الموافقات للشاطبي ، ج1 ، ص 218 .

4 ـ مجموع فتاوى ابن تيمية ، ج8 ، ص 133 .

5 ـ مجموع فتاوى ابن تيمية ، ج8 ، ص 167 .

1 ـ مجموع فتاوى ابن تيمية ، ج8 ، ص 70 .

2 ـ الموافقات للشاطبي ، ج1 ، ص 218 .

3 ـ صحيح مسلم بشرح النووي ، ج16 ، ص 195ـ 196 . وقوله (فنكّس) أي خفض رأسه وطأطأ إلى الأرض على هيئة المهموم . وقوله

( ينكت بمخصرته ) أي يخط بها خطاً يسيراً مرة بعد مرّة . وهذا فعل المفكر المهموم . والمخصرة ـ بكسر الميم ـ ما أخذه الإنسان بيده واختصره من عصا لطيفة وعكاز لطيف وغيرهما .

4 ـ صحيح مسلم بشرح النووي ، ج16 ، ص 196 .

5 ـ مجموع فتاوى ابن تيمية ، ج8 ، ص 69 ـ 70.

6 ـ مجموع فتاوى ابن تيمية ، ج8 ، ص 529 ـ 530 .

7 ـ مدارج السالكين لابن القيم ، ج3 ، ص 478 .

1 ـ مدارج السالكين لابن القيم ، ج1 ، ص 114 وما بعدها .

2 ـ التاج الجامع للأصول من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم للشيخ منصور علي ناصيف ج5 ، ص 205 ، والخماص جمع خميص وهو ضامر البطن الجائع . والبطان جمع بطين وهو عظيم البطن الشبعان .

3 ـ المرجع السابق ج5 ، ص 205 .

4 ـ الفتاوى لابن تيمية ، طبعة فرج الله كردي ، ج1 ، ص 359 .