أوروبا تضيع فرص فهم العالم العربي

شغل الربيع العربي أوروبا الرسمية والشعبية وجعلها تتابع أحداثه بشغفٍ محاولةً التوصل إلى معرفة جوهر هذا الحراك ومآلاته كأول تجربةٍ شعبية تجري في العالم العربي هددت بتغيير حدود سايكس – بيكو ونادت بإنشاء أنظمة حكم عادلة وممثلة لشعوب المنطقة.

أوروبا لم تكن غائبة عن المنطقة يومًا من الأيام. فتقسيم المنطقة الى هذه الدويلات المتصارعة المتهالكة كان عملاً أوروبيا بامتياز. ولا شك أن القارة العجوز لا ترغب في قيام أي شكلٍ من أشكال الوحدة بين شعوب العالم العربي، بل تعدّ هذا الأمر كابوسًا مقلقًا لها. ومن هنا يأتي التفهم والتشجيع الأوروبي، والغربي عموما، لأي عملية انفصالية في العالم العربي، كما يأتي الدعم الأوروبي- الغربي للكيان الذي مزق المنطقة ولا يزال.

المراقبون الأوروبيون من صحافيين وكتّاب وباحثين ومراكز أبحاث، يتابعون المنطقة كذلك باستمرار، ويتواصلون مع جهات كثيرة فيها ويصدرون عنها الكتب والتقارير والدراسات. والشيء الواضح أن النتاج الفكري لهؤلاء حول منطقتنا هو غير واقعي على الإطلاق، ولا يمثل شعوبنا ولا منطقتنا، بل هو أقرب إلى الأمنيات الناتجة عن الحقبة الاستعمارية منه إلى الواقع والحقيقة. لهذا فوجئ كثيرون من المراقبين الأوروبيين بالربيع العربي وتطوراته، واعترفوا أنهم لم يكونوا يعرفون المنطقة حق المعرفة وأن الجهات النخبوية العربية التي كانت تخاطبهم وترسل لهم التحليلات لم تكن دقيقة أو صريحة في تحليلاتها وتوقعاتها.

بُهت المراقبون الغربيون بسقوط أنظمة حكمت المنطقة عشرات السنين بتظاهرات شعبية ثم ثورات مسلحة في بعض الساحات. وقبل قيام الثورات المضادة التي أدت إلى نكبات في أكثر من ساحة، كان هؤلاء المراقبون يتخبطون في محاولاتهم لفهم ما يجري ويترددون في إصدار أي إشارة تأييد أو تنديد بهذه الحركة الخارجة عن المألوف.

ثم لما سادت الثورات المضادة واستقر الوضع لها، واتضح أن حركة الربيع العربي كانت جادة أكثر من اللازم بالنسبة لأوروبا، انطلقت حملة تشويه وتجريم لهذا الحراك وتحول من ربيع عربي إلى "خريف إسلامي" وصار الإعلام الغربي يقرن اسمه بحركات متطرفة قامت على استلاب النصر من الجماهير التي ثارت على الأنظمة، لتعيد الوضع إلى أسوأ وأعقد مما كان عليه سابقًا.

بعدما ضاعت فرصة الربيع العربي لفهمٍ أفضل للمنطقة جاءت فرصة أخرى مع نهايات شهر رمضان الكريم الماضي. وجاءت من الأراضي الفلسطينية المحتلة هذه المرة. فقد ضاق المقدسيون بمحاولات طردهم من مناطقهم والتضييق عليهم وصعّدوا احتجاجاتهم، ودخلت غزة على الخط لدعمهم لتدخل المنطقة حالة صدامٍ وترقب وخوف لم تعرفها منذ سنوات.

لم يكن توازن الرعب الجديد الذي فرضته غرة على الكيان وحده ما هزّ صورة المنطقة لدى الأوروبيين. فقد كانت وسائل التواصل الاجتماعي تنقل إجرام المستوطنين وجيش الاحتلال بحق الأسر الفلسطينية بشكلٍ لم يسبق له مثيل. كما كان تفاعل الشعوب العربية مع الأحداث كبيرًا، وحاول آلاف المواطنين العرب اقتحام حدود بلادهم مع الكيان على أكثر من جبهة، لكن تلك المحاولات لم يكتب لها النجاح.

الصور التي تنقل الوقائع حول ما يجري في الأراضي المحتلة ملأت وسائل التواصل الاجتماعي وخلقت مناخًا صارخًا ضد الكيان، الأمر الذي تجلى في التظاهرات الضخمة التي خرجت في معظم بلاد أوروبا منددة بإجرام الكيان ومستوطنيه ومطالبة بنصرة الشعب الفلسطيني.

في المقابل لم تبدِ أوروبا الرسمية اهتمامًا بكل هذا الفجور والإجرام من الكيان تجاه الفلسطينيين. وظلت مواقف الحكومات الأوروبية باردة وغير مبالية بالوقائع، فيما دعمت أوروبا الهدنة لاحقًا حينما اتضح أنها لصالح الكيان.

وعكس الحراك الشعبي الأوروبي المؤيد للفلسطينيين، كان موقف النخبة الأوروبية والإعلام الأوروبي مخزيًا تمامًا، إذ تبنى رؤية الكيان للأحداث وبرّر إجرامه وكال الاتهامات للفصائل الفلسطينية المقاومة بالإرهاب وقتل المدنيين الإسرائيليين وغيرها من التهم المتهالكة، انتهاءً إلى تقرير حق الكيان في "الدفاع عن النفس".

النخب الأوروبية ظهرت في الحرب الأخيرة بين غزة والكيان أكثر صهيونية من الكيان نفسه وراحت تختلق أحداثًا وتفسيراتٍ لها في محاولة مستميتة لنصرة إجرامه بحق الفلسطينيين. وقد زعمت تلك النخب أن إطلاق الصواريخ من غزة هو المشكلة وكأن القضية الفلسطينية بدأت بهذه الصواريخ، في تجاهل وتعامٍ عن التاريخ الإجرامي للكيان. كما جرى تضخيم دور تركيا في هذا الصراع بشكل كبير. وتحدث متابعون أوروبيون عن تسبب الرئيس التركي بهذه الجولة من النزاع عبر دعمه لفصائل المقاومة الفلسطينية هربًا من استحقاقات تركية داخلية.

دفنت أوروبا الرسمية والنخبوية من جديد هذه الفرصة لفهمٍ منصف للعالم العربي وأحداثه، في انتصارٍ فاضح لرؤية الكيان، مثلما جرى الانحياز قبل سنوات قليلة إلى الثورات المضادة والأنظمة الجاثمة على مستقبل الشعوب العربية وأنفاسها. وبدا واضحًا من جديد أن العقلية الاستعمارية لا تزال توجه صانع القرار الأوروبي وتحدد له كيفية فهم الأحداث في منطقتنا وفقًا للمصالح الاستعمارية، وفي تجاهل واضح لمطالب شعوب المنطقة بالحرية. وهذه العقلية الاستعمارية لا تستطيع أن ترى عالمنا العربي خاليًا من الكيان المجرم ومن الأنظمة القمعية التي تحميه وتمده بأسباب البقاء والتمدد.

وسوم: العدد 931