يجدر بمن يعيب طعم شيء أن يتأكد أولا من سلامة ذوقه

من المعلوم أن الشاعر أبا الطيب المتنبي لم يعتل عرش الحكمة صدفة بل حازه استحقاقا لأنه خبر الدنيا ومن فيها ففاضت حكمته ، وخلف للناس منها في أشعاره ما يردهم إلى كل صراط سوي نكبوه ، ويكبح جماحهم عن كل غي اتبعوه . وكيف لا يكون شأنه معهم كذلك وهو الخبير بهم خبرة لبيب لا تضاهي وقد قال عنها :

إذا ما الناس جرّبهم لبيب  = فإني قد أكلتهمو وذاقا

وليست خبرة من يأكل كخبرة من يذوق خصوصا وأن الذوق خدّاع ،وقلما يصدق صاحبه لأنه عند أغلب الناس  يرد مسؤولية عيب تذوقه إلى ما يذوقه دون أن يتفطنوا إلى ذلك، فتصدر عنهم أحكام ضالة على المذوقات دون مراجعة عيوب أذواقهم .

وقد يقول قائل إن الأذواق بطبعها مختلفة ومتفاوتة ، فما يعيبه  ولا يستسيغه بعضها يستحسنه ويستسيغه البعض الآخر ، ويصعب حينئذ الفصل بينها والحكم على الصحيح منها والسقيم إلا أن المتنبي الشاعر الحكيم هدته حكمته إلى معيار يستحيل معه القول باختلاف الأذواق وتفاوتها حيث اختار لاختبار الأذواق مذوقا  يستحيل أن يقع بينها اختلاف  فيه وهو ماء عذب فرات سائغ شرابه ،والذي به يعرف الذوق السقيم من الذوق السليم فقال :

ومن يك ذا فم مر مريض   = يجد مرا به الماء الزلالا

ومعلوم  أن العلة إذا أصابت الإنسان أفقدته الذوق السليم بسبب مرارة يجدها في فيه ،فلا يستطيع استساغ ما يتذوقه حيث تتساوى المذوقات عنده، فيجدها كلها مرة وإن حلت أو عذبت أو طابت إلا أنه قد يخامره شك في كثير منها ،فيصدق فمه المريض في طعمها إلا أنه إذا ذاق الماء الزلالا بدا له عيبه كما نبه إلى ذلك الشاعر الحكيم في بيته الشعري المشهور . ويغلب على الظن أن الأطباء غالبا ما يصفون للمرضى أدوية ذات طعم مر لا يجدون عن وصفها مندوحة ولا يمكن أن تتناول إلا والأفواه بها مرارة السقم حتى تشعر بمرارتها .

والشاعر الحكيم جاء بهذه الحكمة في  هذا البيت الشعري  في سياق حديثه عمن عابوا شعره فجاء بين بيتين كالآتي :

أرى المتشاعربن غرّوا بذمّي   =  ومن ذا يحمد الداء العضالا

ومن يك ذا فم مر مريض       = يجد مرا به الماء الزلالا

وقالوا هل يبلّغ الثريا   ؟        = فقلت نعم إذا شئت استفالا

ففي هذه الأبيات الثلاثة التي توسطها بيت حكمة لا يستغني عنها لبيب ،أفحم المتنبي من راموا الاستنقاص من شاعريته الفذة ، فوصفهم أولا بالمتطفلين على الشعر والشاعرية ساخرا ومتهكما منهم حيث نزلهم من مقامه منزلة من  لا يمكنهم أن يحمدوا الداء العضال إذا أصابهم ، وما ذاك الداء العضال سوى حسد حرّق قلوبهم . ومن أجل وصف أذواقهم السقيمة التي لا تتذوق شعره شبههم بالسقيم ذي الفم المر المريض الذي يجد به الماء الزلال مرّا ، دون أن يتهم ذوقه . وإمعانا في الحط من شأن من عابوا شعره أجرى على ألسنتهم سؤالا ثم أجابهم عنه جواب افتخار واعتزاز بشعره وبنفسه حيث جعل شعره يبلغ به ما فوق الثريا إذا ما شاء صاحبه أن يسفل إليها  .

وما يعنينا من حكاية الشاعر المتنبي مع خصومه هو حكمة بيته الشعري الذي ينبه كل إنسان على مر العصور إلى أنه يجدر بمن يعيب طعم شيء أن يتأكد أولا من سلامة ذوقه وإلا كان شأنه كشأن ذي الفم المر المريض الذي يجد مرا به الماء العذب الفرات ، ولا يمكن أن يقره أحدا على سقم ذوقه ،وفوه به مرارة والماء زلال سائغ شرابه .

وما أكثر الأفواه المرة المريضة  التي تجد الماء الزلال مرا في زماننا هذا ، ذلك أنه لا يقول قائل قولا ، ولا يفعل فعلا ، ولا يسعى سعيا ، ولا يبادر مبادرة إلا وانبرى له مرضى الأذواق بالقدح دون حمد ما يستوجب الحمد في قوله أو فعله أو سعيه أو مبادرته ولو كان شأنها شأن العذب الفرات ودون اتهام أذواقهم السقيمة أو التفطن إلى مرارتها .

وقلما يوجد في الناس في زماننا هذا من يوازن بين الثناء على ما يستوجب الثناء وبين ما ذم  يستوجب الذم ، والغالب عليهم أنهم يغلّبون العيب الواحد أو الوحيد  ـ والعيوب  لا يخلو منها آدمي ـ  على المحامد الكثيرة فينسفونها نسفا ، وهو ما عبر عنه الشاعر زفر بن الحارث الكلابي في بيت حكمة أيضا قال فيه

أيذهب يوم واحد إن أسأته  = بصالح أعمالي وحسن بلائيا ؟

فمن من الناس اليوم يستعرض صالح أعمال غيره  وحسن بلائه ، ولا ينسفها إذا حصلت منه إساءة  واحدة قد تكون وحيدة ؟  علما بأن ما  قد يعتبر إساءة منه إنما  سببه الأذواق السقيمة المرة التي تجد الماء الزلال مرا .

وإننا والناس عندنا  اليوم على موعد مع استحقاقات انتخابية ـ وقد اشتد وطيس الحملات الانتخابية قبل حلول موعدها ـ أغلبهم قد مرضت أذواقهم ،فصاروا لا يتذوقون  بها عذب أو فرات أو زلال  بعضهم البعض، وإنما يجدونه مرا أو أجاجا دونما اتهام لأذواقهم وهم على يقين بأن التنافس المحمود فيما بينهم  قد جعلها مرة مريضة ، وكان من المفروض أن يستحضروا تقوى الله عز وجل ومخافته ويذعنوا لأمره سبحانه وتعالى إذ يقول في محكم التنزيل : (( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدوا هو أقرب للتقوى إن الله خبير بما تعملون )) ، فيذكر كل واحد منهم لخصمه ما له وما عليه بكل تجرد وموضوعية وعدل لأن شهادتهم في بعضهم البعض ستكتب ،وسيسألون عنها يوم العرض على الله عز وجل وقد خاب يومئذ من حمل ظلما .

وسوم: العدد 936