نظرة في هموم الوطن

نعمان فيصل

[email protected]

تعرضت الحركة الوطنية الفلسطينية عبر مسيرتها الطويلة، لكثير من العقبات والعثرات، سواء في تركيبتها التنظيمية أو الأيديولوجية، وفي خضم ذلك كان التفكير ينحصر فقط في حساب الذات والمصلحة الشخصية، التي تحقق لهذا الجانب أو ذاك الشهرة والنفوذ والسلطان والمال، دون أن تتكاتف الجهود لتغيير اتجاه العواصف، التي كانت تهب من كل اتجاه.

كان الانقسام الفلسطيني بين حركتي فتح وحماس، هو الأخطر في تاريخ الشعب العربي الفلسطيني؛ لأنه عرض وحدة الأرض الفلسطينية لخطر الانقسام والانشطار، وأصاب النسيج الاجتماعي في الصميم، وشل كافة مقومات الحياة السياسية، ورسخ مفهوم الحزب الواحد في كل من شطري الوطن، والانهيار الاقتصادي الذي وصل إلى درجة سيئة عام 2013، بما يهدد مبدأ الوحدة الوطنية ومستقبل المشروع الوطني برمته.

إن الوضع الفلسطيني الداخلي نتيجة القطيعة والانقسام، والذي يذكرنا بما كان واقعاً في حقبة العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، ومَن يستعرض تلك الفترة الزمنية يرى ذلك بوضوح من خلال الصراع بين الزعامات والعائلات الفلسطينية التي استحوذت على القيادة منذ الانتداب البريطاني على فلسطين؛ مما كان له أبعد الأثر في اتجاهات الحركة الوطنية، حيث لم يكن الهم الوطني، وإنهاء الانتداب البريطاني على سلم أولوياتهم، بل أصبح الخلاف على السيادة والسيطرة على إدارة الشأن الفلسطيني هو السمة البارزة وقتئذ، مما عزز الانقسام، وجعل البريطانيين يمضون في إملاءاتهم وتمرير سياستهم على الفريقين من منظور السياسة الإنجليزية المعروفة (فرق تسد) عبر اقتسام السلطة. ولا غرابة في أن العداوات العائلية خاصة بين عائلتي الحسيني والنشاشيبي، ومَن سار على دربهما من العائلات الأخرى في سائر أنحاء الوطن، وكذلك السياسات الحزبية قبل عام 1948 كانت في مقدمة العوامل التي حالت دون توظيف القدرات البشرية والإمكانيات المادية المتاحة، التوظيف الأفضل لمواجهة تحدي الاستعمار والصهيونية. وكان من نتائجه ضرب الحركة الوطنية في القلب، وحرف الجهود عن مسارها الطبيعي في مقاومة الاستعمار البريطاني، الذي كان يمهد الأرضية، ويهيئ المناخ في فلسطين، لإقامة الدولة الإسرائيلية، التي أصبحت واقعاً الآن، وإخفاق انتفاضات وثورات الشعب الفلسطيني المتتالية، وأكبر دليل على ذلك حرب عام 1948 ونتائجها على الشعب العربي الفلسطيني.

 

ومن الخطأ، أن ندعي أن الفلسطينيين قد قعد بهم اليأس قبل عام 1948، بعد فشل الزعامات الفلسطينية في السير بالحركة الوطنية في الطريق الصحيح، بل إن غياب قادة حقيقيين تهدي الجماهير سواء السبيل في تحقيق أمانيهم في الحرية والاستقلال، وتقود نضالهم لتحقيق أمانيهم وآمالهم وتحقق أحلامهم، حال بينهم وبين ما تجيش به نفوسهم من رغبة في تحدي الاحتلال ومقاومته. وهو جانب هام من تاريخنا القومي، علينا أن نعيه أشد الوعي حتى يصبح حكمنا عليه حكماً، قائماً على الأصالة والحق، متجنباً الميل والهوى والجهل بحوافز المجتمع الفلسطيني في تحرره وانطلاقه، وتطور هذه الحوافز وفقاً لتطور الأحداث والعوامل.

وتدور عجلة الزمن، وكأن التاريخ يعيد نفسه - حيث تتعدد حلقاته وتتشابه تفاصيله – إذ أضحى الخلاف بين حركتي فتح وحماس من أجل السلطة والنفوذ والبحث عن كراسي الزعامة، فما أشبه اليوم بالبارحة، حيث المحاصصة، وتقاسم السلطة أقوى الأدوات التي عززت هذا الانقسام حول سلطة لا تملك من أمرها إلا الشيء القليل، وتعزز الاتجاه لدى الجانبين للبحث عن السلطة المطلقة، وإقصاء الآخر، وبالتالي تغلبت الحزبية والمصلحة الذاتية على المصلحة الوطنية العليا، وإن لم تطو صفحة هذا الانقسام فإن سوء العاقبة ستطال المشروع الوطني برمته.

وهذا يحتم علينا جميعاً، أن نأخذ العبر من الماضي، لنعزز الحاضر بإيجابيات قوية، تؤسس لمستقبل مشرق من العمل الوطني في ظل وحدة وطنية، ترسم آفاق هذا المستقبل على قاعدة أن الوطن للجميع. لذا، فجدير بالفلسطينيين اليوم، مراجعة تجربتهم الانقسامية بين حركتي فتح وحماس، وأن ينفضوا عن كاهلهم أعباء الانقسام، ويبنوا وطنهم سوياً من خلال وحدتهم الوطنية، التي بات من الضروري العمل على استعادتها، وطي صفحة الانقسام التي تتحطم على صخرتها كل مشاريع الهيمنة والاستيطان والتهويد، وطمس الهوية الوطنية، وسلخ الشعب عن تاريخه وجغرافيته وعقيدته، خدمة للمشروع الصهيوني النقيض التاريخي للمشروع الوطني الفلسطيني.

ولعل من أهم ركائز هذه المراجعة للتاريخ، إعادة قراءته بأفق أوسع، وأن يؤمن الكل أن انقساماتنا لم تجرْ علينا إلا الوبال والخسارة الكبيرة، وهل أعظم من خسارة وطن؟ ففي ظل الانقسام بين حركتي فتح وحماس ليس هناك منتصر ومنهزم أو فائز، إنما الخاسر الأكبر هو الوطن، الوطن بكل مقوماته، بأرضه وشعبه، بتراثه ومقدساته، بثقافته وتاريخه، ببحره وبره، بجباله وسهوله وأوديته.

ولا بد أن يتجه الجميع اليوم إلى تحرير الإرادة الوطنية، والبحث بين الفرقاء عن القواسم المشتركة، التي لا تغيب عن أحد، ولسنا في حاجة إلى مزيد من الجهد للبحث عنها؛ فهي واضحة كالشمس، إلى جانب معالجة أوجه الاختلاف بالحوار الهادئ، والنقد الذاتي البناء، بعيداً عن أجواء التوتر وعنترية العشيرة والقبيلة، وأن تتحول تلك الأشكال المكونة للمجتمع إلى رافعة قوية في خلق مستقبل أفضل للأجيال تحقق فيه بهذه الروح الجديدة، وفي زمن قياسي ما فشلت في تحقيقه عبر كل السنوات التي مضت. وفي ظل هذا المناخ، نأمل أن يؤمن كلٌ منا بقبول الآخر، وعلى مبدأ المشاركة الصادقة في بناء الوطن لا على إقصاء الآخر، فالوطن في حاجة لجهد الجميع، ودم الجميع، لأنه سقف الجميع تحته ملاذهم الآمن.