لا سلطان على الإنسان إلا عقله فهو من يقبل أو يرفض مما يعرض عليه من أفكار أو قناعات

مما أنعم به الله عز وجل  على الإنسان  بعد نعمة الخلق نعمة العقل الذي به كرّمه، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا . وعن طريق هذه الملكة تواصل سبحانه وتعالى معه . وكانت بداية التواصل أولا  مع من اصطفاهم  من رسله وأنبيائه الكرام صلواته وسلامه عليهم أجمعين عن طريق الوحي، وعنهم أخذ الناس وتواصلوا مع خالقهم بعقولهم التي عرفوه بها  وعرفوا بها أنفسهم  ، وعرفوا  بها غيرهم من المخلوقات المحيطة بهم حية وجامدة  .

ولم تنقطع صلة الله عز وجل بالإنسان منذ بدء الخليقة ، ولن تنقطع حتى ينتهي هذا العالم . ومدار التواصل بينه سبحانه وتعالى وبين الإنسان هو ملكة أو نعمة العقل الذي هو أساس المعرفة والتي هي بمثابة سراج يطرد ظلمات الجهل .

والناس في استعمالهم ملكة العقل قسمان : قسم يحسن استعماله كما برمجه الخالق سبحانه وتعالى ، وقسم آخر يسيء استعماله . وعلى رأس الذين أحسنوا استعماله صفوة خلقه سبحانه وتعالى من رسل وأنبياء صلواته وسلامه عليهم أجمعين  الذين شملتهم رعايته ، وعصمتهم مما لا يعصم منه غيرهم  من الخلق، وعلى نهجهم سار الموفقون  في استعمال عقولهم  اقتداء بهم ، وقد جعلهم سبحانه وتعالى قدوة لهم . وما سوى هؤلاء هم ممن أساءوا استعمال نعمة العقل إلا من تداركهم سبحانه وتعالى بلطفه ، فعادوا إلى رشد بعد ضلال ، واقتدوا أيضا بمن أحسنوا استعمال عقولهم  .

ومما درج كثير من الناس على الاعتقاد  به  عبر مراحل التاريخ البشري، وما زالوا على ذلك ، وسيبقون كذلك إلى نهاية العالم  أنه يمكن أن تكون لغير عقل الإنسان  سلطة عليه  تتحكم فيه ،وهو وهم كذبه  الوحي المنزل من عند الله عز وجل وأيده في ذلك الواقع ماضيا ، ويؤيده  حاضرا، وسيؤيده مستقبلا .

والذي حمل الناس على هذا الوهم أنهم يرون بعضهم يسايرون غيرهم في  قناعاتهم  الفكرية والعقدية وهم  بذلك يسوقونهم سوق القطعان ، وهذا ما أوهم بأن  هؤلاء لهم عليهم سلطان ، والحقيقة  أنهم لا سلطان لهم عليهم وإنما عطلوا عقولهم بإرادة منهم فسهلت مأمورية من يسوقونهم .

 و غالبا ما يكون سبب سوقهم سوق القطعان  إما نزوات  فيهم وأهواء أو منافع ومصالح  ، أو خوف من أخطار تهددهم ، هذا إذا كانوا صادقين في تبعيتهم وخضوعهم لمن يسوقونهم  ويستخفون بهم ، أما إن كانوا عكس ذلك  بحيث يظهرون لهم الخضوع والتبعية ، فإنهم في هذه الحال يبطنون الخضوع لعقولهم  مطمئنين إليها، وقد يموتون على ذلك ، ولا يعلم بأمرهم من كانوا يظنون أنهم  قد استحوذوا على عقولهم وأنهم صاروا لهم تبعا .

ولقد أقام الله عز وجل  الحجة على الإنسان بما أنعم عليه من نعمة العقل ، ولا يستثنى من ذلك إلا من حرم العقل  . وقد فعل سبحانه وتعالى ذلك  في كل الرسالات المنزلة من عنده من لدن سيدنا آدم عليه السلام إلى  الرسالة الخاتمة  المنزلة على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وهي الرسالة التي أراد لها  سبحانه وتعالى أن تكون سارية المفعول إلى قيام الساعة .وملزمة للعالمين  جميعا خلاف سابقاتها التي كانت تلزم من تنزل فيهم تحديدا دون سواهم .

وأول حجة تقام على الإنسان هي وجوب معرفته خالقه ، وقد بسط أمام عقله من الأدلة والبراهين  عليها ما لا سبيل إلى إنكارها ، ولا  يمكن أن ينكرها إلا جاهل جهلا بسيطا أو جهلا مركبا ،وهو أسوأ الجهل أو جاحد مكابر ومعاند ، وهم أصناف  قد جاء وصفهم  في محكم التنزيل .

وتأتي بعد  إقامة حجة معرفة الله عز وجل عقلا باقي الحجج التي أقامها سبحانه وتعالى على الإنسان والمتعلقة بكل ما يتصل  بحياته ، وقد قدم أيضا بين يديها أيضا  من البراهين والأدلة الدامغة والواضحة وضوح شمس في كبد سماء صافية الأديم .

والناس في تعاملهم مع الحجج الإلهية التي أقيمت عليهم كي لا تكون لهم حجة على خالقهم سبحانه وتعالى  يوم يرجعون إليه إما خاضعون لعقولهم  كما صممها سبحانه وإما معطلون لها خاضعون لأهوائهم أو لأهواء غيرهم .  والنوعان معا موجودان في كل أنحاء المعمور، ويوجد بينهم خلاف يطبعه الصراع والتدافع بحيث يريد كل نوع أن يخضع النوع الآخر لإرادته إما عن طريق الإقناع وإما عن طريق الاستخفاف  والإلزام  والإكراه ، وهم جميعا  مخطئون في ذلك لأن الذي يملك السلطان عليهم جميعا إنما هي عقولهم لا غير، ذلك أن الذين وفقوا إلى معرفة خالقهم بعقول أحسنوا استعمالها يحاولون أن يقنعوا الآخرين بما اقتنعوا به دون إلزامهم بذلك بل بتذكيرهم بأدلة وبراهين تلقوها  هم أنفسهم مما أوحى به إليهم الله عز وجل ، لكنهم  قد يواجهون عقولا لا تشتغل كما تشتغل عقولهم أو بالأحرى لا تشغل مثلها فلا يستطيعون إقناعهم مهما حاولوا ذلك ، وقد أخبرهم الله عز وجل باستحالة ذلك ما لم يتدخل هو سبحانه لهدايتهم كي  يشغلوا عقولهم بالطريقة الصحيحة التي توصلهم إلى الاقتناع  ، ومع ذلك لا يحق إلزامهم أو إكراههم على عكس ما توصلهم إليه عقولهم التي هي حجة عليهم أمام خالقهم.

وكثيرا ما نسمع من يقولون مثلا أقنع فلان فلانا  أو بتعبير شرعي آمن أو أسلم على يديه، والحقيقة أن الذي يحصل هو إنعام الله عز وجل بنعمة استعمال عقله الاستعمال الصحيح من أجل الوصول إلى الاقتناع، أما من ينسب إليه ذلك من البشر فمجرد أسباب ساقها له الخالق سبحانه وتعالى، فذكرته بالأدلة والبراهين المقنعة فاطمأن  بها عقله المشغل بعد التعطيل .

وما قيل عن الذين هادهم الله عز وجل إلى حسن استعمال عقولهم  ينسحب على من لم يوفقوا إلى ذلك حيث يظن هؤلاء أنهم قادرون على إقناع  غيرهم بتقليدهم في تعطيل عقولهم  واتباع أهوائهم ،وهم واهمون أيضا لأنهم في الحقيقة  لا سلطان لهم عليهم إلا سلطان عقولهم  المعطلة هي الأخرى والتي التقت مع غيرها في التعطيل  .

والغريب أن ما يحدث لدى المعطلة عقولهم أنهم يصرون على إجبار وإكراه غيرهم على تعطيل عقولهم أيضا إلزاما وقهرا وتهديدا . وهؤلاء بالرغم من امتلاكهم  قوة وسلطانا يخشون من وصول أدلة وبراهين من لا قوة ولا سلطان لهم ممن وفقهم الله عز وجل إلى حسن استعمال عقولهم إلى الناس  لأنها بالنسبة إليهم تشوش عليهم استخفافهم بالناس كما كان حال فرعون مع نبي الله موسى عليه السلام  ، وكما هو حال الأنظمة العلمانية اليوم التي ترى فيمن  يتحدثون باسم الإسلام خطرا يتهددها ،لذلك تواجههم بأنواع وأشكال وألوان من الاتهام والتجريم ، وسوء المعاملة ، و المضايقة مع أنهم ليس لديهم ما لديها  من قوة  وسلطان  ونفوذ  تستعمله لممارسة إكراه الناس وإخضاعهم  وكأنهم لا عقول لهم هي وحدها ذات  السلطان  عليهم عقولهم  . إن العلمانية اليوم تمثل نموذجا من من نماذج التسلط على عقول الناس لتعطيلها والتي ورد ذكر لها في كتاب الله عز وجل إنها فرعونية جديدة تفرض على الناس ألا يروا إلا ما ترى غير آبهة بعقولهم التي لا تقنعها إلا الأدلة والبراهين ، ولا يصح عندها إلا الصحيح.ومما تلجأ إليه هذه الفرعونية الجديدة سن شرائعها وإحاطتها بما يشبه القداسة لإلزام الناس بها ، وتجريم من لا يقدسها ولا يلتزم بها، وهي بذلك تواجه شرائح من الناس الذين يتظاهرون لها بالخضوع وهم في الحقيقة إنما يخضعون  لسلطان عقولهم التي لا يقتنعون إلا  بأدلتها وبراهينها ولا يطمئنون إلا لها .

فمتى ستترك  الفرعونية الجديدة العقول يقارع بعضها بعضا كل بأدلتها وبراهينها بعيدا عن أساليب الإكراه أو الإلزام بالتهديد والوعيد ؟ علما بأن العقول المسددة بتوفيق الله تعالى لن تعطل أبدا  إلا ما شاء سبحانه ، ونعوذ بالله من ذلك ، كما أن العقول المعطلة بالأهواء لن تسدد إلا بمشيئته ، وهو ما نرجوه لها صادقين . وطوبى لمن سدد الله تعالى عقولهم لتشتغل وفق برمجته الإلهية الدقيقة  ، ويا خسارة من عطلوها  وأفسدوا برمجتها بتغليب الأهواء عليها .

وسوم: العدد 940