الهجرة سلوك يجب أن يمارسه الإنسان المسلم يوميا وليست مجرد ذكرى تحيى في يوم واحد

الهجرة سلوك يجب أن يمارسه الإنسان المسلم يوميا وليست مجرد ذكرى تحيى في يوم واحد بمناسبة حلول عام هجري جديد وتنقطع الصلة بها إلى حول قادم

حلت بنا  اليوم ذكرى هجرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ، وطوينا عاما هجريا ولّى، واستقبلنا عاما جديدا أقبل . والمفروض ونحن نحيي هذه الذكرى أن يكون لنا حالان : حال استعراض ما هجرنا في عام مضى ، وحال ما نحن عاقدون عليه العزم من هجران ما هو مقبل مع العام الجديد مما يجب أن يهجر.

أما ما هجرنا  في عام مضى فما أظن سواد المسلمين يولونه أدنى اهتمام ، ولا هم يفكرون أيضا  فيما سيهجرون، لأنهم لم يتشبعوا بالدلالة العميقة للهجرة ، ولم يفكروا بعد مرور قرون عليها في ذلك بل صارت بالنسبة إليهم مجرد حدث ماضوي لا تتعدى دلالته انصرام حول هجري وحلول آخر محله ، واتخاذ ذلك مناسبة لتبادل التهاني لرحيل عام وحلول آخر ، وليس للنجاح في تشرب سلوك الهجرة خلال الذي مضى ، والعزم على ذلك خلال الذي أقبل .

ولقد حدّد رسول الله صلى الله عليه وسلم دلالة الهجرة في قوله :

" المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله  عنه ".

وهذا الذي حدده رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف، هو سلوك يومي يجب أن يلازم الإنسان المسلم في كل أحواله اليومية . وإذا ما وقفنا وقفة تأمل وتدبر  في هذا الحديث ، نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقدم الحديث عن الإسلام على الحديث عن الهجرة ، وهو في الحديث عنهما لم يسهب في التعريف بهما بل أوجز منتهى الإيجاز لكن  مع عمق الدلالة  وبعد النظر.

 فالإسلام حسب هذا الحديث هو ضبط الإنسان المسلم لجارحتين من أخطر الجوارح على الإطلاق هما : جارحة اللسان ، وجارحة اليد ، فالأولى مسؤولة عن الأقوال والثانية مسؤولة عن الأفعال . والأقوال والأفعال هي موضوع ابتلاء واختبار الإنسان في هذه الحياة الدنيا وعليها يحاسب، ويتقرر مصيره في الآخرة والذي يكون إما خلود في النعيم أو خلود في الجحيم .

ولقد تقدم الكلام في هذا الحديث النبوي الشريف عن القول قبل الفعل لخطورته خصوصا وأن الناس دأبوا على الاستهانة به  واستصغار شأنه وهو عظيم . فاللسان المسؤول عن القول يكفر، ويشرك ، ويفجر ، ويكذب ، ويشهد الزور ، ويغتاب ، ويسخر، ويستهزىء ، ويضلل ، ويخدع  ، ويشتم ، ويسب ، ويفحش ...  إلخ ،فتصير الكلمة الصادرة عنه مصدر كل الشرور والآفات ، والإيذاء بها أسهل وأشد وأخطر ، وهي تصيب الأحياء والأموات على حد سواء ،وتكون هي المحركة لأفعال جارحة اليد من قتل وفتك وسفك دم ، وسرقة وغلول ، ورشوة ، وتزوير ... إلخ . ولا يوجد فعل قبيح إلا وهو مسبوق بكلمة أقبح تمهد له .

ولما كان الكلام والفعل سلوكين يوميين، فممارسة الإسلام بموجب هذا الحديث تقتضي أن يكونا مدارها بحيث يستحضر الإنسان المسلم إسلامه الإجرائي من خلال ما تقترفه جارحتا اللسان واليد .

 ومعلوم أن كل المسلمين يدّعون الإسلام ، ويشهدون بألسنتهم على ذلك من خلال النطق بالشهادتين ، وهما حجة عليهم إلا أن نفس الألسنة التي تلهج بالإسلام لا يسلم منها المسلمون في لحظة من اللحظات اغتيابا ،وسخرية ،واستهزاء ، وكذبا ، وزورا ... فتنقض هذه الآفات من الأقوال شهادة الإسلام كل حين ، وتزيد من نقضها آفات الأفعال التي تترجم إجرائيا آفات الأقوال .

ويؤكد الشطر الثاني من الحديث الشريف الشطر الأول منه ، ذلك أن المسلم الحق كما حدد رسول الله صلى الله عليه وسلم إسلامه المتمثل في إمساكه جارحتي اللسان واليد عن الإساءة والإذاية هو بالضرورة مهاجر لأنه يهجر ما نهى الله عز وجل عنه من سوء الأقوال والأفعال . وبهذا تكون هجرته ممارسة يومية متواصلة لا تنقطع لحظة من اللحظات .

والاحتفال بحلول عام هجري جديد معناه بالنسبة للإنسان المسلم استعراض ملفات أقواله وأفعاله في عام مضى ، وفتح ملفات جديدة لها تنطلق مع أول دقيقة من العالم الهجري الجديد ،مع الاستفادة من ملفات العام المنصرم من خلال تنكب كل آفة قول أو فعل سجلت فيها . فمن من المسلمين يفعل اليوم هذا إلا من رحم الله تعالى؟

لقد أصبح أمر المسلمين في هذا الزمان مثار دهشة واستغراب وحزن  يكاد ينطبق عليهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :

 "  بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم ، يصبح الرجل مؤمنا ، ويمسي كافرا ، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا ، يبيع دينه بعرض من الدنيا " .

 إنه وصف ينطبق على هذا الزمان بحيث لا توجد مسافة زمنية  معلومة وفاصلة بين كفر الفرد وإيمانه ، فهو بين عشية وضحاها يتقلب بين الكفر والإيمان والسبب هو بيع الدين بعرض الدنيا الزائل . إن الترجمة الإجرائية لهذه الحال التي يتقلب فيها الإنسان زمن الفتن المظلمة هو أن يصبح مؤمنا ممسكا لسانه ويده عن إذاية المسلمين، لكنه يمسي وقد أطلق لهما العنان ، فينقض إسلامه وإيمانه . ويمكن أن نمثل لذلك بما يحدث يوميا مع استعمال تكنولوجيا الاتصال والتواصل المتطورة حيث تصل الإنسان  من معارفه وأقاربه تحية الفجر أو الصبح فيها دعاء جميل يربطه بخالقه وبقيم دينه ، وبكون فاتحة خير لا شك في ذلك ، لكن قد يتوصل في مساء نفس اليوم من نفس المصدر بما ينقض إسلامه أو إيمانه من وقوع في أعراض المسلمين قذفا، واغتيابا، وبهتانا ،وكذبا ، فينسف ذلك تحية الصباح المباركة ، وكان من المفروض أن تعقبها تحية مماثلة مساء أيضا.

 إن ذلك مؤشر على غياب سلوك الهجرة اليومي الذي لا يجب أن يفارق الإنسان المسلم ، والمؤسف أنه لا يكلف نفسه مجرد تقديم نصح لمن يستدرجه إلى الوقوع في أعراض المسلمين والإساءة إليهم وإذايتهم بالبنان النائب عن اللسان . وقد ينفر من يسدى له النصح منه ، ويقطع تحية الصباح أو قد يقطع التواصل جملة وتفصيلا لأنه لا يطيق النصح ، وهو على حال سيئة  من ترك هجرة سوء القول والفعل  وقد دأب عليها .

ومن الأمور المثيرة للاستغراب  أيضا أن الناس يتبادلون فيما بينهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي أحوال السلف الصالح سعيا وراء الاقتداء بها لكنهم لا يتجاوزون أمر تبادلها إلى فعل الاقتداء والتأسي بها  لأنهم يعيشون انفصاما حقيقيا ذلك أن شأنهم اليومي لا يمت بصلة لشأن السلف الصالح ، فهم  يعبرون عن إدراك جيد لشأن هذا الأخير ، ولكنهم لا يأتون شيئا منه وقد جرفهم تيار الفتن  كقطع الليل المظلم ، فيصبحون مع السلف الصالح ، ويمسون مع الخلف الطالح.

والمؤسف أن من يهديك شيئا مما كان عليه السلف الصالح يقدمه لك وهو يبدو وكأن حاله كحالهم تماما، مع علمه علم اليقين أنه ليس في عير منهم ولا في بعير ، ولو أنه اكتفى بعرض حاله على حالهم ، وعرف المسافة الفاصلة بين الحالين لكان ذلك خيرا له من نصح غيره بما لا ينتصح به هو أولا ،لأن الناصح  في الواقع يعرف ، والعارف لا بالضرورة  يلزم .

ومما شاع في زمن الفتن هذه أن كل الهدايا مهما كانت تهفو إليه النفوس إلا هدية واحدة لم تعد مقبولة ولا مرغوبا فيها ألا وهي إهداء المرء عيبه مع أنها أغلى ما يهدى  له ليكون مسلما حقا ومهاجرا حقا كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .

اللهم بصرنا بعيوبنا وسق إلينا من يهدينا عيوبنا ، وارزقنا الصدور الرحبة لقبول هدايانا من عيوبنا . واجعل اللهم حلول هذا اليوم العظيم الدال على حدث الهجرة العظيم يوم يمن وبركة ورفع بلاء الوباء ،وكل بلاء ما نعلم منه وما نجعل ونغفل عنه إنك رءوف رحيم ، قريب سميع مجيب الدعاء.

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . 

وسوم: العدد 941