أمريكا مدمنة الهزائم

dgshdjg943.jpg 

قل ما شئت من أوصاف عن الذي جرى ويجري في أفغانستان اليوم، فإذا قلت إنها «خيانة أمريكا» فأنت محق، وإذا قلت إنها مذلة وسقوط لأمريكا، فأنت على حق أكثر، فخيانات أمريكا لعملائها من أصل طباعها، ولم تكن الخيانة الأمريكية في أفغانستان سلوكا اختياريا، بل اندفعت إليه بالإجبار لا بالاختيار، وهزيمتها هناك كانت أسبق من قرار انسحابها.

ذهبت واشنطن وحلفها الأطلنطي إلى أفغانستان قبل عشرين سنة، وكان الهدف المعلن هو القضاء على حركة «طالبان» حاضنة تنظيم «القاعدة» ولم تحصد سوى الفشل بعد الإزاحة السريعة لحكم «طالبان» واغتيال أسامة بن لادن بعدها بعشر سنوات، وفي باكستان وليس في أفغانستان، وقبل قرار ترامب وبايدن من بعده بالانسحاب، كانت حركة «طالبان» تسيطر على نصف أراضي أفغانستان، ولم يكن يتبقى لها سوى السيطرة على عواصم الولايات الأربع والثلاثين، ومع هرولة القوات الأمريكية وفرارها المتعجل، دخلت «طالبان» إلى المدن والعاصمة كابول في أسبوع، وفي غالب الأحيان، من دون طلقة رصاص، فقد انهار الجيش الأفغاني العرمرم الذي دربته وسلحته أمريكا في أيام، تماما كما حدث لنظيره العراقي الذي اكتسحته «داعش» قبل سبع سنوات، وتبخر 300 ألف جندي وضابط أفغاني في لحظات، وآلت كل أسلحتهم وأسلحة القوات الأمريكية وقواعدها ومطاراتها إلى «طالبان» وذهبت أغلب عوائد التريليوني دولار التي أنفقتها أمريكا هناك إلى الحركة التي أسسها الراحل الملا محمد عمر قبل نحو ثلاثين سنة، في ما تكفل عميل أمريكا الرسمي «الرئيس» أشرف غنى بسرقة الباقي، وهرب مع زوجته، واستولت أمريكا على أصول «البنك المركزي الأفغاني» قبل هروب رئيسه، قبل أن تدق طالبان على أبواب كابول بنقرة إصبع، وتدخل القصر الرئاسي للمرة الثانية.

وليست هذه أول مرة تنهزم فيها أمريكا، فقد أدمنت الهزائم، ولم تدخل حربا بعد قصف هيروشيما ونجازاكي بالقنابل الذرية في نهاية الحرب العالمية الثانية، لم تدخل حربا إلا خسرتها، من الحرب الكورية أوائل خمسينيات القرن العشرين، وليس انتهاء بحرب الصومال وحرب العراق، وبينهما حرب فيتنام الأشهر، التي قتلت فيها أمريكا ثلاثة ملايين فيتنامي، وفقدت 58 ألفا من جنودها، بينما كانت خسارتها مع حلفائها والمتعاقدين في حرب أفغانستان نحو سبعة آلاف، مقابل مقتل 300 ألف أفغاني، وكانت النهايات متشابهة وربما متطابقة، فمشاهد هروب الأمريكيين من سايغون أواخر إبريل 1975، تكاد تكون هي ذاتها مشاهد الفرار من مطار كابول أخيرا، مع فارق أنها منقولة هذه المرة صوتا وصورة، وبالدقيقة والثانية، فقد أرسلت أمريكا آلافا من جنودها إلى الجزء العسكري من مطار كابول، واضطرت للاتفاق مع حركة «طالبان» على تسهيل مهمة الهروب، وتريد إجلاء نحو ثمانين ألفا من عناصرها وعملائها الأفغان، ويعتبر رئيس أمريكا بايدن أن إنجاز مهمة الهروب نصر عظيم في ذاته، ولا يجد حرجا في الاستعانة بحركة «طالبان» لقمع وتفريق جحافل الأفغان المندفعين الراغبين في الهروب على الطائرات الأمريكية، الذين تعلقوا بعجلات الطائرات وأبوابها، وأقلعت الطائرات تاركة الضحايا يسقطون أرضا، يموت منهم من يموت، أما الباقون فتتكفل بهم رصاصات الأمريكيين، ورصاصات كتائب «طالبان» التي لا تزيد أعدادها على السبعين ألفا، يشدون جلابيبهم وعمائمهم ولحاهم ومواسير»البازوكا» ويغرقون في فيض سلاح أمريكي متطور ترك لهم، ذهب بعضه تلقائيا كغنائم إلى دول جوار، كما جرى في هروب عشرات المروحيات بطياريها إلى طاجيكستان، بينما تلتزم «طالبان» بمبدأ عدم المس بأي أمريكي مدنيا كان أو عسكريا، في أغرب سلوك يمكن تصور صدوره عن حركة، تعتبر نفسها قائدة تحرير وطني ضد المحتلين الغزاة.

وربما لا يكون من عزاء للمتيمين بمحبة «ماما» أمريكا، وللمؤمنين لا يزالون بقدرة أمريكا المطلقة شبه الإلهية، وبقداسة تقارير المخابرات المركزية الأمريكية، التي حلت عندهم بديلا لآيات الذكر الحكيم، وقد تطايرت تقارير المخابرات إياها كأوراق «دشت» في الهواء، وثبت زيفها وضلالها وإفلاسها المهين، فقد توقعت سقوط كابول في يد «طالبان» بعد ستة شهور من الانسحاب الأمريكي الذي كان مقررا إتمامه في أوائل سبتمبر 2021، ثم عدلت التوقعات إلى نصف المدة، ثم إلى ثلاثين يوما لا غير، بينما اجتاحت «طالبان» عواصم الولايات الأفغانية في أيام، ودخلت «كابول» في دقائق، وفي عمليات تسليم وتسلم آلية تماما، وكأن القصة كلها لا تعدو أن تكون «لعبة كومبيوتر» بينما وجدت واشنطن نفسها غارقة في الفضيحة، فبايدن الذي وعد بما سماه عودة أمريكية قوية لقيادة العالم، يجد نفسه في حالة انكماش كفأر مذعور، وتسليم بائس بضياع الصورة الذهنية المصنوعة عن قوة أمريكا، ومطاردا حتى من ترامب الذي طالب باستقالة بايدن، المهتم بإجلاء كلاب الأمريكيين البوليسية، وتفضيلها على عملائه الأفغان الخائفين من إعدامات «طالبان» المنتظرة، فقد ابتلع بايدن وعود أمريكا الأولى عن بناء أفغانستان جديدة، وعن نشر الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وإلى غيرها من أوهام تعوّد على بيعها «الكاوبوي» الأمريكي زمن سطوته، التي جارت عليها تحولات العالم، وأفقدت أمريكا امتيازها الأعظم، وحولتها إلى مجرد «قوة عظمى» بين متعددين، تكاد خطوات بعضهم تسبق واشنطن المثقلة بخيباتها، فلم يعد للخطط الأمريكية عالميا من قيمة كبيرة ولا مفعول أكيد، فقد قيل من زمن، إن أمريكا ذهبت إلى أفغانستان بخطة كونية، هدفها حصار صعود الصين وعودة روسيا واحتواء الهند، ولن تعدم من يقول لك اليوم بعد عشرين سنة إخفاقا، إن أمريكا تنسحب اليوم، وتسلم أمر أفغانستان إلى «طالبان» القادمة من عوالم القرون الوسطى، وفي سياق خطة أمريكية بديلة، تهدف إلى تحويل أفغانستان إلى جنة لجماعات الإرهاب الديني، تهدد الصين المنافسة لأمريكا، والتي تتشارك بالحدود مع أفغانستان، وتتخوف من دعم «طالبان» المحتمل لحركات «الإيغور» المسلمين غرب الصين، إضافة لدعم حركات راديكالية مسلحة عند جيران الشمال الأفغاني، وبالذات في جمهوريات طاجيكستان وأوزبكستان وتركمانستان، وكلها من جمهوريات آسيا الوسطى المسلمة السوفييتية سابقا، والحليفة أمنيا لا تزال لروسيا، مع ضمان زعزعة الأوضاع في باكستان الحليفة تجاريا واقتصاديا للصين، ولها حدود بطول 2200 كيلومترا مع أفغانستان، فضلا عن تشجيع إيواء الحركات السنية المتطرفة المناوئة لإيران الشيعية المجاورة غربا لأفغانستان، وكلها مع غيرها من أوهام الخطط الأمريكية المكشوفة العبيطة، فقد حرصت إيران ـ مثلا ـ على إقامة خطوط اتصال مبكرة مع «طالبان» ولطهران موقع قدم كبيرة داخل أفغانستان، وأقلية «الهزارا» الشيعية الأفغانية، تصل نسبتها إلى 20% من مجموع السكان الأفغان، وقد تكون من شركاء «طالبان» في الحكم الجديد، ناهيك من مقدرة باكستان على ترويض «طالبان» وقد كانت الأخيرة في الأصل صنيعة المخابرات الباكستانية، وكانت باكستان هي الدولة الأولى المعترفة بحكم «طالبان» القديم بين عامي 1996 و2001، ولم يكن معها في الاعتراف الدبلوماسي سوى دولتين خليجيتين، بينما يبدو الأمر مختلفا هذه المرة، فقد امتنعت سفارتا روسيا والصين عن الإخلاء، وأقامتا تواصلا احتوائيا مبكرا مع حكم «طالبان» الجديد بزعامة الملا هبة الله زاده، وهو ما يعني سعيا لاتقاء شرور قد تأتي من الفوضى الأفغانية المتوقعة، وصولا لاحتواء الصين لموقع أفغانستان الجغرافي المهم في وسط آسيا، وكسبه لصالح خطة الصين الكبرى المعروفة باسم «طريق الحرير» وربما احتكار استخراج النحاس والمعادن النادرة في أفغانستان، كالليثيوم والبريليوم وغيره، مقابل معونات صينية سخية إلى بلد منكوب بين الأشد فقرا في العالم، والمحصلة ببساطة، أن أفغانستان بلد الأفيون وتمزق القبائل والأعراق ووعورة الجبال والحروب، التي لا تنتهي، قد تتحول للمفارقة إلى رصيد مضاف لهيمنة الصين وروسيا وذوي القربى، بينما لا تخرج أمريكا والغرب من أفغانستان حتى بخفي «حنين».

وقد لا يكون من أمل ظاهر في سلوك مختلف من أغلب حكام العرب، ولا في صوغ سياسة جديدة تجاه أفغانستان، البعيدة عنا جغرافيا، القريبة سياسيا ودينيا وتاريخيا، ولسبب لا يخفي، هو خضوع الحكام غالبا للمشيئة والسياسة الأمريكية، وإدمان الركض بمعية واشنطن، حيثما حلت أو انسحبت، وفي الذاكرة القريبة مآس لا تحصى، وذهاب منقاد وراء أمريكا بدعوى محاربة الروس في أفغانستان، ورفع شعار الجهاد ضد «الكفرة» الروس منذ أواخر السبعينيات، وهو ما ارتد علينا وبالا وتخلفا وإرهابا، ومن دون أن ينقذ الشعب الأفغاني ضحية الأطراف كلها، وتلك قصة أخرى، قد نعود لتناولها في مقال مقبل بإذن الله.

وسوم: العدد 943