«وَلَقَدْ يسَّرْنَا القُرْآَنَ للذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر»

د. محمد عناد سليمان

«وَلَقَدْ يسَّرْنَا القُرْآَنَ للذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر»

قَوْلٌ وَإِعْجَازٌ

د. محمد عناد سليمان

[email protected]

استوقفني قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً }«الطلاق12».

وعند البحث عن تفسيرها فيما ورد من «المأثور» و«الرَّأي»، وقعتُ على قول لـ«ابن عبَّاس» رواه «الطَّبريُّ» في تفسيره، وتابعه على ذلك كثيرٌ من جمهرة المفسرين كـ«ابن كثير» وغيرهم، وممَّا قاله «ابن عبَّاس»: «لو حدَّثْتُكم بتفسيرها لكفرتم، وكفركم تكذيبكم بها». وفي رواية ثانية عن«ابن عبَّاس» في إجابته لرجلٍ سأله عن معناها، فقال: «ما يؤمِنُك أن أخبرك بها فتكفر»؟.

وقد ذهب بعضهم إلى أنَّ المقصود بالأراضين السَّبعة «الأقاليم السَّبعة»، وردَّ ذلك «ابن كثير» في تفسيره قائلا: «ومن حمل ذلك على«سبعة أقاليم» فقد أبعد النَّجعة، وأغرق في النّزع، وخالف القرآن، والحديث بلا مُستند. وقد رجَّح «ابن كثير» قول «ابن مسعود» على قول «ابن عبَّاس»، بحجَّة الشُّذوذ في السَّند.

وإلى ذلك ذهب أيضًا «القرطبيُّ» في تفسيره فقال: « ومن الأرض مثلهن يعني سبعًا. واختلف فيهنَّ على قولين: أحدهما: وهو قول الجمهور - أنَّها سبع أرضين طباقًا، بعضها فوق بعض، بين كلِّ أرض وأرض مسافة كما بين السَّماء والسَّماء، وفي كلِّ أرضٍ سكانٌ من خلق الله. وقال الضَّحَّاك : ومن الأرض مثلهنَّ: أي سبعًا من الأرضين ، ولكنَّها مطبقة بعضها على بعض من غير فُتوق بخلاف السَّموات. والأوَّل أصحّ; لأنَّ الأخبار دالَّة عليه في «التّرمذي» و«النَّسائيّ» وغيرهما.

بل إنَّ شيخنا «أبا حيَّان الأندلسيّ» في «بحره» غلَّظ في دحض رواية «ابن عبَّاس» فقال: «وعن ابن عبَّاس، من رواية «الواقدي» الكذَّاب، قال: في كلِّ أرض آدم كآدم، ونوحٍ كنوح، ونبيٍّ كنبيِّكم، وإبراهيم كإبراهيمكم، و عيسى كعيسى، وهذا حديثٌ لا شكَّ في وضعه».

ونشير إلى أنَّ «الواقديّ» هو صاحب كتاب «المغازي»، ومعظم ما ورد في كتب «السِّيرة» هي نقلاً عنه كما فعل «ابن كثير» في «سيرته»، ويتَّهمه «أبو حيَّان» بالكذب، وهو الموضع الوحيد في تفسيره يصفه بمثل هذا الوصف، ودرج على هذا الحكم قومٌ كثيرون كالإمام «أحمد بن حنبل»، وجعل «الشَّافعيُّ» كتبه كلها كذب، وذكروا فيه أقوالا منها: أنَّه متروك الحديث، ويروى أنَّ «البخاريّ» قال: «ما عندي لـ«لواقديّ» حرفٌ، وما عرفتُ من حديثه فلا أقتنع به»، وقد ذكروا أنَّه روى ثلاثين ألفًا من الأحاديث، كما ذكر «أبو داود»، حتَّى إنَّ الحافظ «الذَّهبيُّ» في «نبلائه» وصفه بأكثر من ذلك فقال عنه: «أحدُ أوعية العلم على ضعفه المتَّفق عليه...من عوام المدنيين، وجمع فأوعى، وخلط الغثَّ بالسَّمين، والخرز بالدرِّ الثَّمين فاطرحوه لذلك». وقال أيضًا:  «لا شيء لـ«لواقدي» في «الكتب السِّتَّة» إلا حديث واحد عند ابن ماجة، وجَسَر أن يفصح به».

بينما نجد «الرَّازي» في تفسيره «مفاتيح الغيب» ينتصر لمن ذهب أنَّها «أقاليم سبعة»، والتي استبعدها ابن كثير كما ورد سابقًا، فقال: «ولا بعد في قوله :ومن الأرض مثلهنَّ، من كونها «سبعة أقاليم» على حسب سبع سماوات، وسبع كواكب فيها وهي السّيّارة، فإنَّ لكلِّ واحد من هذه الكواكب خواصُّ تظهر آثار تلك الخواصّ في كلِّ إقليم من أقاليم الأرض، فتصير سبعةً بهذا الاعتبار، فهذه هي الوجوه التي لا يأباها العقل، وما عداها من الوجوه المنقولة عن أهل التَّفسير، فذلك من جملة ما يأباها العقلُ، مثل ما يقال: السَّماوات السَّبع أوَّلها: موج مكفوف، وثانيها: صخر، وثالثها: حديد، ورابعها: نحاس، وخامسها: فضّة، وسادسها: ذهب، وسابعها: ياقوت.  وقولُ من قال: بين كلِّ واحدة منها مسيرة خمسمائة سنة، وغلظ كلُّ واحدة منها كذلك  فذلك غير معتبر عند أهل التَّحقيق ، اللهمَّ إلا أن يكون نقلا متواترا، ويمكن أن يكون أكثر من ذلك والله أعلم بأنَّه ما هو وكيف هو.

والمراد من ذلك كلِّه أمران:

الأوَّل: اختلاف أهل التَّفسير في المقصود من الأراضي السَّبعة الوارد فيها، واختلافهم دليلٌ على ضرورة عدم التَّقيد بقول أحد، أو التَّعصب لمذهب ما على نحو ما ذهب بعضهم.

الثَّاني: إثبات العلم الحديث لما ذهب إليه «ابن عبَّاس»، ووجود كواكب أخرى، تحدَّث بها من غير أهل الإسلام، وأطلقوا عليها نظرية«الكواكب المتوازية»، حتى إنَّ بعضهم قال: إنِّي أحدِّثكم الآن من «أمريكا»، وقد أكون هناك في الوقت نفسه وفي مكان آخر أتحدَّث بأمر آخر؟

أليس هذا موافقًا لما قاله «ابن عبَّاس»؟ واستهجنه بعضهم؟ أليس من الضَّرورة الأخذ بما يوافق العقل والعلم كما دعا «الرَّازي» قبل قليل؟!! أليس المستند الذي أراده «ابن كثير» أثبته العلم الحديث؟

أليس من جمود العقل من يتَّهمُ المجتهد الحديث بالخروج من «الدِّين» أو «الملَّة» إن سلك طريق العلم ليظهر حقيقة الإعجاز وإن خالف جمهور ما اتفقوا على جمهرته؟ أليست «الجمهرة» افتعال من «جمهور» آخر يرفض التَّجديد، أو الإبداع؟!