القراءة المفسدة للعقول والقلوب.. ثربانتيس والدون كيخوت وأشياء أخرى ..

موجوع يتذكر ..

قطوف وتأملات

وكثير منا أو بعضنا قرأ أو سمع عن حكاية النبيل الاسباني - الدون كيشوت - الذي تلبس لباس الفرسان ، المتمجدين بالشجاعة والحب، فخرج يصارع الأعداء الوهميين، حتى صارع فيما صارع " طواحين الهواء " يحسبها خيلا ورجالا ..

قرأنا عن " الدون كيشوت "  ثم قرأنا الرواية كاملة لثربانتيس في عصر الشباب، فخلصنا إلى شكل من أشكال الكوميديا المتمثلة في " جنون العظمة " يصيب بعض الأشخاص ، فيذهب بهم في وادي التهلكة والجنون ..

ورواية " الدون كيخوت"  التي شاع لفظها بيننا " الدون كيشوت "، وكثيرا ما نتندر على شخصية صاحبها ، فيما نكتب أو نحكي هي إحدى الأعمال الإنسانية الخالدة في ثقافة أصحابها، بل عدها بعضهم قرينة الإلياذة لهوميروس، والكوميديا الإلهية لدانتي وفاوست لجيتة ..

تنتمي هذه الرواية ومؤلفها إلى القرن السادس عشر، حيث كانت حضارة الإسلام تأفل، وحضارة الغرب تتأسس، وحيث كما يؤرخ " ثربانتيس " قد شاعت في عالم الناس في الغرب، فنون الكتابة والقراءة - إلى حد ما - كما شاعات قيم الفروسية، والحب ، وحكايات الفارس الجوال، الذي يجول في الأرض مع تابعه، فينصر في كل بقعة للمستضعفين، ويأخذ على أيدي الظالمين، متمجدا بعشق الحبيبة كما الفارس العربي، مرددا لأشعار العشق والبطولة والهيام ..!!

بالتأمل أكثر مع مرور الوقت في رواية " الدون كيخوتت" ووقوفنا أطول مع فصولها الأولى ، ندرك " أن الدون كيخوت " وقع ضحية قراءات مهووسة خاطئة، لكل الرويات الخيالية أو التمجيدية التي كتبت في عصره، ندرك ذلك ونحن نتابع رجل الدين الكاثوليكي والحلاق المثقف، وهما يحاولان الولوج إلى سر اضطراب شخصية "الدون كيخوت" فيدخلان مكتبته فيجدان هذا الكم الكبير من الكتب وروايات الفرسان الجوالين التي استغرق الرجل " الغُفل " في عالمها، فخرج منها مجنونا يضرب بجنونه الأمثال ..!!

ظللنا لفترة نعتقد أن القراءة ،كل القراءة، لا تأتي إلآ بخير ، ومع ملاحظتنا في رواية ثربانتيس كيف أن " القسيس" يقترح إحراق الكتب المسببة للهوس كمخرج من الحالة المربكة والمحبطة، ندرك أن ما اعتقدناه في أمر القراءة ليس صحيحا دائما، أما لماذا أوكل مؤلف الرواية عملية إحراق الكتب إلى "رجل دين " وجار مشفق حلاق؛ فذلك أمر آخر، ربما يحتاج إلى وقفة أخرى...

المطالعة المستغرقة المستمرة لنوع من أنواع المعرفة، بعيدا عن ضوابط العقل، أخرجت لنا شخصية فنية عالمية مضطربة، بل يضرب باضطرابها المثل ، فيثير العجب والسخرية في آن . فأي درس لنا من هذه الواقعة بأبعادها الكلية مع اعتبار فوالق القرون، واختلاف مادة الثقافة وطبيعتها في وقت معا ....

السؤال الذي يلح على عقولنا اليوم : 

من هو " الدون كيشوت "  في عالمنا المحلي ، هل نعرفه ؟ هل نستطيع أن نسميه ؟ ما هي النماذج المتطورة عنه بطفراتها المختلفة، كطفرات كوفيد تسعة عشر ؟؟

ما هو نوع " الثقافة"  التي أدمنّ الناس عليها كما الدون كيشوت، فجعلتنا نهوّم في فضاءات الحب والحرب مثله تماما ، ونظل نحارب طواحين الهواء ونردد الأشعار ؟؟ وترديد الأشعار العامل المشترك الأعظم بيننا وبين المثل المضروب ، كان الدون كيشوت يتصور العرق يخرج من جسمه نزيف دم ويظل يخاطب الحبيبة الغائبة بلغة أهل الهيام ..

حين نرى أنفسنا محاصرين بأنواع " من الجهل المعرفي أو المعرفة الجاهلة" نخوض معاركها ، ونشتبك في فضاءتاها، ونتعثر بعثراتها، ونسقط فلا نكاد ننهض في حفرها ..نتذكر ما كتبه ثربانتيس منذ ما يقرب من ستة قرون ..

" الأنموذج"  التاريخي في شخص الدون كيشوت يتجدد ربما في مرحلة أو في جيل أو أشخاص هم نحن...

وربما أضحك سرا أو جهرا من الدون كيخوتة وأنا أضحك على من ... لا أدري؟؟؟

مأساتنا العقلية والفكرية والثقافية أعظم ...وفارسنا لا يرضى إلا أن يغير العالم على حمار يحسبه حصانا ، وبرأس رمح مكسور ...

وتعلو الأصوات عند اقتسام الولايات ...

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 946