ما ذنب الأرانب؟

أطلق أبو العلاء على الكتاب الذي خصصه لشرح ديوان أبي الطيب، عنوان: «مُعجَز أحمد» وهو عنوان إشكالي ومثير، لأنه يعتبر شعر المتنبي إعجازاً. التصق اللقب بابن سقّاء البصرة بسبب فشله في ادعاء النبوة عندما كان شاباً يافعاً. المتنبي تعلّم الدرس جيداً، فبدلاً من أن يكون أحد الأنبياء الكذبة في تراث العرب، كمُسيلمة الكذّاب، اكتشف أن الشعر هو ميدان إعجازه، راسماً بذلك علاقة معقدة بين النبوة والشعر، لا يزال أثرها واضحاً في الشعر العربي حتى يومنا هذا.

لكن هذه المسألة تحتاج إلى بحث مستفيض خاص بها.

والحقيقة أنني ذهبت باحثاً عن شرح أبي العلاء لديوان المتنبي بسبب الأرانب!

أما كيف كان ذلك؟ فتلك حكاية تستحق أن تُروى.

الشعر يشبه المنام في كونه يقفز من مكان خفي في ذاكرتنا العميقة، يُطلق عليه علماء النفس اسم اللاوعي. فنحن لا نستطيع أن نجد سبباً منطقياً لتوالي مشاهد غير مترابطة في الزمان والمكان في مناماتنا، فنفسرها بالطرق العلمية الحديثة لنقول إنها تأتي من اللاوعي. أما في الأزمنة الماضية، فكانت تُعتبر رؤى أو إشارات إلى المستقبل.

ولأنني لا أؤمن بالخرافات، وهذا ما أدّعيه وأدعو إليه، فإنني أعتقد أن سبب استيقاظ بعض الأبيات الشعرية من ذاكرتي بشكل عشوائي يعود إلى اللاوعي.

قفزت الأرانب من ذاكرتي إلى شاشة التلفزيون بشكل مفاجئ. كنت جالساً أمام الشاشة الصغير أشاهد بانبهار افتتاح معرض «اكسبو 2020» في دبي. وكانت المشاهد مثيرة وتقطع الأنفاس من شدة إتقانها، وهي تذكّرنا بأن العرب يمتلكون مواهب لا تحصى، أو يمتلكون على الأقل القدرة على تسخير مواهب من العالم بأسره، في خدمة مشروع تقدمهم العلمي والاقتصادي. ألم يُرسلوا منذ أشهر قليلة مسباراً إلى المريخ؟ لا أدري لماذا لم يتابع الإعلام العربي مسار هذا الإنجاز الذي وضع بعض العرب في مصاف الدول الفضائية، ولماذا لا توجد تقارير عن مسار هذه المعجزة، كي نعلم هل وصل المسبار أو متى سيصل وهل عاد؟ وإلى آخره.

كنت مبهوراً بالافتتاح المدهش لهذه التظاهرة الاقتصادية والفنية، ولم أتوقف عند بعض التفاصيل الصغيرة التي صارت بلا معنى، كأن أشعر بالغضب أو العار أمام الجناح الإسرائيلي المليء بالكثبان الرملية. ولماذا أغضب؟ هل باتت تزعجنا المصالحة مع أبناء سيدنا إبراهيم عليه السلام، خصوصاً إذا هندسها رئيس أمريكي مؤمن بالله والتجارة والصفقات يُدعى دونالد ترامب. تسامُح الإسرائيليين في معرض «اكسبو دبي» مثير للإعجاب، فهم لم يبنوا جداراً حول الجناح الفلسطيني، ولم يخترقوا هذا الجناح بالمستوطنات، كما أنهم لم يبنوا حوله أسلاكاً شائكة وجدراناً مكهربة كما فعلوا حول غيتو غزة. وهذه مأثرة تسجل للإمارات التي فرضت لغة السلام على من لا يؤمنون به.

كما أنني لم أتساءل لماذا ذهبت السلطة الفلسطينية إلى المعرض؟ هل من أجل التسويق للزيت والزيتون بعدما سبقها الإسرائيليون إلى بيع منتوجات مستوطنات الضفة الغربية للإمارات؟

أما مشاركة الممانعين من سورية الأسد إلى إيران المرشد، فيجب أن لا تثير العجب. المطلوب اليوم هو تطبيع العلاقات مع نظام الأسد. فإذا كانت دول إبراهيم قد طبّعت مع دولة عنصرية تسحق الفلسطينيين، فلماذا لا تطبّع مع نظام يسحق السوريين؟

قلت في نفسي إن هذه الأسئلة تعود إلى الزمن الأيديولوجي الذي انتهى. ألا ترون كيف تتصرف الصين «الشيوعية» كدولة رأسمالية متوحشة، وكيف تنهب إفريقيا؟ انسوا الأيديولوجيات وتعالوا نحتفل بهذا الزمن الجديد، الذي يجمع «العبقرية» اليهودية إلى المال النفطي العربي.

أقنعت نفسي بأن عليّ أن أتغير، وبدلاً من طرح الأسئلة، علينا أن نتمتع. والمتعة تعلّمنا النسيان، ينسى العرب فقرهم وجوعهم وذلهم اليومي كي يستمتعوا بمرآة النفط التي تصورهم بطريقة جديدة لا علاقة لها بحياتهم اليومية.

لكن في اللحظة التي بدأت فيها المتعة الصافية، قفزت الأرانب من اللاوعي، وحشر الشعر نفسه في الصورة كي يحطمها.

وسمعت صوتاً آتياً من مكان خفي مردداً شعر المتنبي:

«فؤادٌ ما تسلّيه المُدامُ /       وعمرٌ مثلُ ما تَهَب اللئامُ/

 ودهرٌ ناسه ناسٌ صغارٌ/     وإن كانت لهم جثثٌ ضخامُ/ 

وما أنا منهُمُ بالعيشِ فيهم/    ولكن معدِنُ الذهب الرُغامُ/

 أرانبُ غير أنهم ملوكٌ/       مفتّـحـةٌ عيونُـهـمُ    نيـامُ».

هكذا ودون سبب، قفزت أرانب المتنبي إلى الشاشة، واحتلت المشهد بأسره.

وبدل أن أستمتع بمشاهد الاستعراض الفني، أخذتني لوثة الأدب إلى تفسير أبي العلاء لقصيدة المتنبي، فأصبت بالذهول.

أحسست أنني خرجت من متعة الفرجة الاستعراضية إلى متعة العقل والفن، إذ لم يكتفِ المتنبي بالحكمة التي هي إحدى ميزات شعره، بل قام بِمَوْسَقَة الفلسفة، بحيث يأخذنا الإيقاع إلى المستويات المتعددة للمعنى.

أتى تحليل المعري ليكشف سر العلاقات بين عناصر المعنى، فقول الشاعر «لكن معدن الذهاب الرغام» أي التراب، يُحيل إلى أبيات أخرى للمتنبي استطاع فيها تجسيد المعنى المفارق للأشياء، كقوله: «فإن المسك بعضُ دم الغزالِ»، أو قوله: «فإن في الخمر معنى ليس في العنب».

لكن ما علاقة الأرانب بهذه اللعبة الفنية؟ قلب المتنبي الاستعارة رأساً على عقب، وقام باستعارة اسم الملوك للأرانب بدل أن يفعل العكس.

كما ترون، فقد ضيّع عليّ المتنبي وأرانبه وملوكه متعة التماهي مع هذا الزمن. وفكرت أن المتنبي لو عاش في زمننا، لأفسد حياتنا وجعل تأقلمنا مع ملوك هذا الزمن وطغاته مستحيلاً.

قلتُ لروحي وأنا أطفئ التلفزيون، لكن ما ذنب الأرانب كي يُلصق بها المتنبي صفات ملوك تنام بعيون مفتوحة؟

الأرنب حيوان جميل وأليف وحنون، يحبه الصغار ويغنون له، فلماذا أتى بهم الشاعر إلى احتفالات «اكسبو 2020»؟

كما ترون، فاللاوعي الشعري قد يصير شبيهاً بالكوابيس التي تُقلق نومنا.

نحن النيام أيها الشاعر، أما الملوك والطغاة فهم ذئاب وليسوا أرانب.

وسوم: العدد 949