اجتثوا واحذروا

(رابطة الوعي الإسلامي)

من أمراضنا داءان وبيلان انتشرا متعاضدين في جسم أمتنا الكريمة ففتكا به ما شاء لهما الفتك حتى أضحى هذا الجسم نحيلاً يميل مع كل ريح، ضعيفاً لا يقوى على المقاومة بله الصمود، متفككاً لا يكاد يتماسك، هذان الداءان أحب أن اعالجهما في كلمتي هذه، ماساً إياهما مساً رفيقاً لا يجرح ذوي المنهجية الموغلة في نفوسهم، ناهيكم عن الذين يتبعون كل ناعق دونما كياسة أو حصافة، ومتوخياً الإيجاز ما استطعت إليه سبيلاً، رجاء أن يمتد إليهما قلم قوي ذو مبضع نفاذ فيضعهما على السفود بغية تطهيرهما إن لم يكن هناك احتراقهما الأخير أو تطاير أشلائهما شعاعاً.

وأول هاذين الداءين: داء القومية الإقليمية أو داء الجنسية العنصرية الذي أصبح أشبه بالمستعصي على العلاج نتيجة الجهل الفاضح بأسباب نشوء الأمم وارتقائها وتطورها من الكامل للأكمل، ومن ثم نتيجة النظر السطحي في نفسيات الشعوب وأسباب نصرها وخذلانها.

إننا نحن -المسلمين- نفتح أعيننا الآن فنراها واكفة بدموع سخية من حدة وكثافة دخان القوميات المحترقة في أتون الدعوات العالمية من إسلامية وديموقراطية وشيوعية بدأت تنساح في طول البلاد وعرضها آخذة بخناف من يعترضها من دعوات قومية تثير النقع حيناً لتصبح اهدأ وأسلم في مثواها النهائي لأن جرثومتها جرثومة مرض عضال ما تتملك أزمة أمة إلا وتتركها مستريحة في القبور، فهذه ألمانيا أم القومية الرؤوم، أين هي؟ إنها الآن تضمد جراحاتها بضمادات صفيقة بغية رأبها.. وهيهات أن تستطيع.. ولكن هل اتعظت بها وبغيرها الأمم التي لم تتورط ورطتها تلك فخشيت الوهدة التي تردت فيها؟ قد يكون اتعظ غيرنا من الأمم ذوات النظر البعيد، أما نحن أمة العرب، فلم نتعظ، وأظننا غير متعظين إلا إذا سقطنا سقطتها لا سمح الله.. فبالرغم من أنه "قد تتالت منذ مطلع القرن العشرين -كما قال العليم فروخ- حوادث كانت تسلب دعاة القوميات الإقليمية حججهم أو تجرد تلك الحجج من مقوماتها المادية" فإن من أبناء جلدتنا وممن يدينون بديننا ويتكلمون لغتنا من يجهد في نشر هذه الدعوة المسلوبة الحجج، وإلا "فأي قيمة قومية لبقاء مراكش منفصلة عن تونس والجزائر؟ وما المعنى القومي في قيام مملكة ليبية؟ وأي مغزى قومي في فصل السودان عن مصر؟ ثم جاءت الطامة الكبرى فاجتاحت -الحجج القومية- مرة واحدة، إن سبع دول وسبع قوميات وسبع وزارات وسبعة جيوش وسبعين مليوناً لم يستطيعوا أن يقفوا سبعة أسابيع في قتال جماعات كانت مخذولة منبوذة ومفرقة ومشردة، ذلك لأننا قاتلناهم بسلاح القومية المفرقة، وقاتلونا بسلاح ألبوا به علينا العالم السياسي من أقصاه إلى أقصاه" وفي وسعك أن تقول عن العنصرية القومية الإقليمية مثل هذا وزيادة، وظروفنا العصيبة الحاضرة شاهد عدل على صدق ما نقول.

إن آذاننا تنتبه لصيحات متفاوتة في الارتفاع، فإلى جانب دعوات القومية توجد دعوات عالمية عقدية منها المتين متانة خيط العنكبوت، ومنها الواهن وهن بيته.. نتيجة لهذه الصيحات فنصيخ السمع ريثما يرتد إلينا روعنا كما كان، لنعاود النظر فيما يقتضينا عمله في هذه الأوقات العصيبة ضمن هذه الدعوات المتواكبة بنفور مزعج، إذ نحن الآن على مفترق طرق شتى كل منها ذو منظر خلاب تستهوينا زينته فتشد من قلوبنا وعقولنا إليه.

فما الذي يتطلبه منا مستقبلنا؟ وما الذي تريدُنا الأجيال القادمة على فعله؟ فنحن مسؤولون أمام الله والتاريخ والأجيال البريئة القادمة، ولسوف يكون حسابنا عسيراً إذا لم نمحص الآراء، ونتحكك بالنافع من الدعوات، لنضع أسس مجتمع قويم ذي دعائم حديدية تليق ولكنها لا تتفتت تفتت الفولاذ المتماسك، ولنحذر الرتق في أعمالنا فإنه لا يستطيع الصمود أمام هذه الدعوات السيئة كما لا يجدي فتيلاً حيال غير الصمود.

والداء العضال الثاني هو داء التقليد الأعمى الذي يسيطر على عقول الأغلبية الغالبة، والذي أضحى في نظر هؤلاء القاصر، إمارة النجاح في الحياة العملية والنظرية، فشمروا عن سوقهم مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتدّ إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء، غير ملتفتين إلى ما يلاحقهم من فشل ذريع وتخبط مريع في جهالات ضليلة، تخبط من ألم به مسٌّ من الشيطان، أو تخبط الذي يجود بدمائه عن رضا خبيث في سبيل الشيطان.

هؤلاء المقلدون "صمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون" كنه الجريمة التي يجترمونها في حق دينهم وأمتهم وبلادهم، ولا سرّ ما يجترحون من آثام تندك لفظاعتها معاقل الدين والعادات وما إليها من تقاليد محبوبة، فضلاً عن المصالح التي من أجلها هم في ضلالاتهم هذه يعمهون، ومن أجلها هم تركوا الدين والفضلية وأحبوا الذي هم فيه من البدع الخرقاء التي تمخض عنها فكر قزم وعقل أبتر في رأس أجوف.

ولو فكر هؤلاء القوم قليلاً، ورجعوا إلى المنطق الصحيح الذي وأدوه، ولم ينظروا نظرتهم السطحية تلك، وذهبوا بعيداً بأبصارهم الكليلة كما يفعل العقلاء من الناس، لعادوا القهقرى، نادمين على ما سولت لهم أنفسهم من أمر قذر، ولكانوا أقرب إلى الفهم السوي الذي لا تجد عوجاً ولا أمتاً، ولعلموا غير ما هم يعلمون.. لعلموا أن التقليد مضر أيما ضرر إذا أخذ من كل نواحيه، وجبل في كل مجاليه دون ما تشذيب أو تهذيب، ولعلموا أية فائدة يجنونها بتشذيبهم وتهذيبهم إياه، إذ ليس أفضل منه مأخوذاً من طرف، مطرحاً من آخر، بحيث يعود علينا بالخير العميم، ضارباً بكل مضرة عرض الحائط، هاوياً بكل تيه إلى هوة سحيقة الأغوار، لا تمكنه من أن يشرئب بعنقه ملوحاً بما يبهر أنظار السذج والعقول الجماهيرية التي يقاد إلى حتفها وهي ترقص، لأن المظهر البراق خدعها عن حقيقة صيرورتها التي ستصير إليها لأنها كامنة في صميم هذا المظهر.

إن التقليد في أمر دون آخر هو من عمل العقل الفطن والرأي الحصيف، ليس غير، فمثلاً نحن في مسيس الحاجة لكي نقلد الغربيين والشرقيين، الأنس والجن، في المناحي التي تبعث فينا القوة وتنفخ روح التضحية والفداء، فليس أفدح إثماً منا عندما قعدنا عن هذه المخترعات التي جعلتنا كسيري الأجنحة، محطمي النفوس، مبعثري القوى، في الوقت الذي يشمخ علينا في الأقزام – بحق - في دول الشرق والغرب، حامياً أنوفهم – وحقها أن تمرغ في الرغام - كاشحة وجوههم التي هي أشبه بالقرود..

نحن الآن في حاجة -أي حاجة- لأن نقلد في شيء سوى هذه المخترعات الجبارة التي تجعل منا ذوي سطوة ترهب من يحاول صدها، أو يخامره شعور الوقوف أمام دعوتها المنداحة في كل مكان، ناهيكم من أن يعتدي علينا معتد مهما مشى الخيلاء في ذهابه وإيابه، ومهما تبجح بالقوة والجبروت، ومهما..ومهما.. إذاً نحن في أمس الحاجة لأن نقلد في هذه الناحية تقليداً كلياً، حتى إذا ما دانت لنا أسرار ما نقلد فيه، لم نقف بل أسرعنا في عمل جبار آخر يتضاءل حياله ما قلدنا فيه، هذا هو المنطق الحق في ما أعتقد أعتقاداً لا تخالطه ذرة ارتياب..

أما أن نقلد كالببغاوات بل كالقرود في كل شي إلا هذا الشيء غير فاهمين أي شيء، أما أن نقلد في هذه الخلاعة و الميوعة والانحلال الخلقي، أما أن نقلد في هذه المظالم الاجتماعية وفي تلك الفلسفات الجوفاء التي تفتك بعقائدنا ومقومات حياتنا، فلا وألف لا.

إننا نملك من الفلسفة ما تحقر ما عداها في غير انتفاخ مقيت، وهذه هي كتب فلسفتنا ظاهرة للعيان ترضي نهم كل شره، بل لايكاد يستوعبها إنسان مهما أراد الترف في ذلك فلم نخلف هذه وراءنا ظهرياً لنقلد الأقزام في فلسفاتهم الممجوجة؟ وأننا نملك من القوانين والنظم المتناهية في العدل والتي أفاءها علينا ديننا موحاة إلى رسولنا وزعيمنا الخالد صلى الله عليه وسلم مجتمعة بين دفتي دستورنا الخالد خلود الأبد ما يتصاغر دونها أي دستور ونظام، وما نالت إكبار كل ذي عقل عاقل، فما هي الكياسة في هجر ما عندنا إلى ما عند القوم المبهوري الأنفاس، الحقيري القيم، سوى كياسة الهدم والتخريب المتمكنة في نفوس الدعاة "التقدميين" وسوى غريزة الشر والإفساد والشهوة البهمية..

نحن أغنياء في كل شيء في فلسفاتنا ودستورنا ونظمنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الوافية بجميع متطلباتنا الحيوية، لأنها تنزيل من حكيم حميد ليسري مفعولها في كل زمان ومكان، ولكننا فقراء في المخترعات وفي المخترعات فقط، فلمَ نتصرف عن قوة ما عندنا إلى ضعف ما عندهم؟ وعن منطقنا إلى عنجهيتهم، وعن عدلنا إلى مظالمهم، وعن عالميتنا إلى قوميتهم التي بنوها في نفوسنا ليسودوا علينا مسترشدين بـ"فرق تسد" ؟..

أيها المسلمون: لم تعد ثمة حاجة لمزيد من التفصيل في هذين الداءين المهلكين في هذه الكلمة المقتضبة، ولا أريد منكم أكثر من أن تراجعوا رصيدكم المذخور، ثم تكونوا بعده قوة متماسكة لا تطير ذرتها شعاعاً، ولا تتشعب أجزاء وتفاريق.

أيها المسلمون:

ألم يأن لقلوبكم أن تخشع لذكر الله، ولعقولكم أن تتفق على ما نزل من الحق الصراح، فتتركوا الدعوات الجاهلية المغرضة وتعودوا إلى إسلامكم العظيم كيما تعود لكم قوتكم، وتنصروا الله كيما ينصركم، ومن ذا الذي ينصركم من دونه؟ فإلى الإسلام من جديد، إلى الإسلام يا مسلمون.. والله أكبر والمستقبل للإسلام.

*مجلة التمدن الإسلامي (دمشق) – كانون الأول 1956م.

وسوم: العدد 952