معيار تأكد الإنسان من قدره عند من يثق في مودتهم هو أن تظل مواقفهم منه واحدة في حالي سخطهم منه ورضاهم عنه

مما جاء في كلام أحد الفضلاء وهو ينصح كل مقبل على اختيار رفيقة العمر لجمالها أن ينظر إليها في حفل عزاء ، وهي في ثوب حداد حزينة باكية لا في حفل زفاف، وبزينتها وهي مسرورة باسمة .

وقياسا على نصح هذا الفاضل ينصح كل من يريد التأكد من قيمته عند من يثق في مودتهم وهم كثر منهم الجار ، والزميل في دراسة أو وظيفة أو عمل ، والرفيق في سفر، وصديق العمر ، و القريب ، وشريك الحياة .... وكل من تقر بهم العين أن تظل مواقفهم منه سواء في حالي سخطهم منه أو رضاهم عنه .

ومعلوم أن مواقف الإنسان تتغير حسب سخطه ورضاه، لهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في أبيات شعرية زاخرة بالحكمة :

وعين الرضا عن كل عيب كليلة = ولكن عين السخط تبدي المساويا

ولست بهياب لمن لا يهابني = ولست أرى للمرء ما لا يرى ليا

فإن تدن منّي تدن منك مودتي = وإن تنأ عني تلقني عنك نائيا

كلانا غنيّ عن أخيه حياته = ونحن إذا متنا أشد تغانيا

وقد تفوت كثيرا من الناس في حياتهم فرص معرفة قيمتهم الحقيقية عند من يثقون في مودتهم ، وتمضي أعمارهم ولمّا يحصل ما يمحص تلك المودة التي يدعونها . وما أشد صدمتهم حين يحصل ذلك في يوم من الأيام ،فيكتشفون أن تلك المودة إنما كانت مودة الرضى التي سرعان ما تزول في حال السخط ، وحينئذ يتمنون لو أن التمحيص لم يتأخر كثيرا ، ويندمون على ثقتهم في مودة كانت مشروطة بالرضا .

ومعلوم أن المودة الدائمة التي لا زوال هي ما كانت خالصة لوجه الله تعالى كما أمر بها في كل العلاقات التي تربط الناس فيما بينهم من قرابة أو نسب أو جوار أوصداقة ... ولهذا يذكر حديث منسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يضعّف أهل الحديث أسانيده وهو : " ما كان لله دام واتصل ، وما كان لغيره انقطع وانفصل ".

وإذا كان البعض يقول : " الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية " فالأولى ألا يفسد السخط المودة بين من يدّعونها ، ويبديها بعضهم لبعض .

وأسوأ ما يسوء الإنسان في حياته ، ويخلف جرحا غائرا داميا في قلبه أن يفاجأ يوما ممن يعزهم بما يعبر عن مودة زائفة كان يثق فيها ثقة عمياء حتى حدث في يوم من الأيام ما كشف زيفها . ورب كلمة لا يلقي لها بال مدعي المودة يكون لها أسوأ وقع في نفس من يثق فيها وهو ما عبر عنه الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد :

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة = على المرء من وقع الحسام المهند

ومما يروى لشاعرآخر يوصف بشاعر الحكمة ،ويدعى يعقوب الحمدوني قوله :

وقد يرجى لجرح السيف برء = ولا برء لما جرح اللسان

جراحات السنان لها التئام = ولا يلتام ما جرح اللسان

وجرح السيف تدمله فيبرى = ويبقي الدهر ما جرح اللسان

ومما ينسب إلى لإمام علي كرّم الله وجهه والله تعالى أعلم قوله :

إن القلوب إذا تنافر ودّها = مثل الزجاج كسرها لا يجبر

وبالرغم مما قاله البشر في هذا الشأن ،فإن أقوالهم يؤخذ منها ويرد إلا قول الخالق جل في علاه ، وقول المعصوم عليه الصلاة والسلام ، فالله تعالى يقول : (( ولا تستوي الحسنة والسيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقّاها إلا الذين صبروا وما يلقّاها إلا ذو حظ عظيم )) ،فإذا كان الله تعالى قد وعد بمودة بعد عداوة، فأحرى بعودتها بعد جفاء بين من كانت تجمع بينهم فاعتراها ما اعتراها من فتور ثم انجلى عنها بقدرة الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، وما ذلك عليه بعزيز، وله سبحانه وتعالى الحمد والمنة.

وسوم: العدد 955