غدا ... موعد مغادرة ديار الغربة

تمتلئُ شوارع بلاد أوروبا وغيرها من قارات العالم  بالعرب الذين أحبتهم الهجرة ،  واجتالهم اللجوء ، فتركوا بلادهم  ، ومرابع صباهم ، وأوطانهم التي أحبوها ، فتراهم يجرّون أحلامهم أو أضغاث أحلامهم على عواتقهم في دياجير مستقبل مجهول أمامهم ، أخفت ملامحُه الداكنةُ الغدَ المجهولَ الذي لايعلم مايخبئه لهم إلا الله سبحانه وتعالى . 

الزمن لديهم هو كل ما يملكونه من ذكريات وصور وأصوات مَن غادروهم ، ولطالما أمضوا الليالي الطوال يدعون الله راجين منه فرجا قريبا يجمع شملهم بعائلاتهم التي أرهقها الانتظار ، ونغصتْ عليهم راحتهم إن بقيت لهم ما يسمَّى بالراحة . أبواب اللجوء يُخيل لقاصديها أنها مفتوحة ، وربما تدعو إلى اندماج اللاجئين داخل مجتمعاتهم ، واللاجئ هنا يجد صعوبة في الاندماج الحقيقي بأرض تختلف عن أرضه ، ويجد الاختلاف واضحا في طبيعة البلد ، الديانة، العادات، الأعراف ، الطعام ،النظام ... إن ما تريده منه حياته الجديدة لكي يستطيع أن تمنحه هي بالمقابل ما يرضي متطلباته وآماله أمورا عديدة . وذلك لتحسين وضعه المعيشي ، وطرق أبواب الرزق الأخرى ، والمجالات التي تتطلبها الحياة . ويعيش اللاجئون  وهم ينتظرون لحظة الفرج الكبير يهبه الله لهم في ساعة تشرق فيها شمس الخلاص من ليل المكابدات والآلام ، والتي تحرر فيها بلادهم من أسباب مغادرتهم لها ، وتحتضنهم وهم معززون مكرمون ، بعد غربة قد لاترحم الإنسان ، وصدق القائل :

يا قلب إني قد أتيتك ناصحاً ... فاربأ بنفسك أن تقودك محنتي

 إن الغريب سقته أيام الأسى ... كأسَ المرارةِ في سنيِّ الغربةِ

واليوم أفرغ دمعَ عيني بالبكا... ندماً على ما كان مني ويلتي

جفت دموعي من فواجع ما أرى ... لكنَّ صبري في الشدائد قوتي

الغربة في هذه الظروف العالمية تعني الكثير، ولعلها عنوان الأمل الكبير بالله الذي بيده الأمر من قبل ومن بعد ، فاللجوء إليه سبحانه والاحتماء بفضله وعفوه وحكمته  يكسر حدة التيار الذي يُخيل للغرباء بأنه سيجرف كل شيءٍ أمامه . ولكن هذا التيار الجارف لن يجرف الأمل بالله ، فبالله وحده كنا ، وبالله سنكون بحوله وقوته , نحن أمة نعتقد بأن كلَّ ماكان إنما هو بعلم الله وتقديره ، ولن تستطيع قوة في الكون مهما بلغت من الجبروت أن تغيِّرَ نواميس الكون التي  جعلها الله بيئة اختبار وابتلاء لعباده الذين يؤمنون به . وهيهات أن ينتصر اليأس على أمة يردد حاديها آناء الليل وأطراف النهار : ( إنا لله وإنا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ) .

نعم الغريب يعاني ، ومَن حوله يعانون من حر الصيف وبرد الشتاء ، ومن الجوع والفاقة ، ومن القهر والحرمان ، الغريب يعاني وربما يرى ماحوله من الخلق وكأنهم أشباح في حفل دراماتيكي حزين مضطرب ، رغم قهقهات بعضهم ، ورغم دموع آخرين في مسرح الحياة الكبير . مسرح لو جاز لنا أن نسميه كذلك ، إنه مذهل ومخيف ، ومن وراء الكواليس لاتدرك تلك الأشباح التي تتراقص في المحافل المظلمة أيضا . وهيهات أن يُعرف الغريبُ إلا أنه حقلُ تجارب لهمجية حياة متفلتة في حضارة حالها حال : ( السَّقط ) الذي ما أتم المدة لنفخ الروح ، فهي حضارة لاروح فيها ,  وأما الغريب فلا يكاد يعرف موطنه الأصلي ، أو أن يرى مَن سمع به وحزن على مأساته .

ويبقى الله ، يبقى الأول والآخر والظاهر والباطن ، وهو على كل شيءٍ قدير .

وسوم: العدد 955