عن» حزب الله» بين ظاهره وباطنه

كان حدثاً خارقاً للعادة للنظام العالمي، ونقطة فاصلة في تاريخ المنطقة، احتلالُ السفارة الأمريكية في الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر 1979 من قبل طلبة «الثورة الإسلامية». بالتوازي مع تلك الذكرى، قامت القوات الخاصة الإيرانية بإنزال على ناقلة نفط تحمل العلم الفيتنامي في بحر العرب.. وتلك وهذه، تؤرّخان لسلطة الخميني- الحرس الثوري- خامنئي، التي تعتمد تصدير الثورة، جزءاً لا يتجزّأ من الأيديولوجيا والاستراتيجية التي تحملها، وخبزها اليومي.

أولّ «منجزات» تلك السياسة كان تأسيس حزب الله، بعد تمهيد لثلاثة أعوام، بعد نفض اليد من حركة أمل، ذات المسار اللبناني الخاص، والبحث عمّا هو أكثر تجسيداً لمصالح النظام الجديد في طهران، وبرنامجه المقبل. وكما فعل الحرس الثوري حين أنهى الشركاء الذين كانوا متحمسّين لعملية التغيير في إيران، قامت النُوى التحضيرية الواعدة في البداية، بتنظيف الساحة من المنافسين المحتملين، ومن تشويشهم المقلق اللاحق، تعزيزاً كذلك للعصبية الدينية – المذهبية القصوى، من خلال تصفية عدد من الوجوه اليسارية والثقافية. وبعد ذلك بسنواتٍ أيضاً، وللهدف ذاته، تمّت تصفية نفوذ وحساب الشيعية الإيجابية الأليفة، بإنهاء ظاهرة السيد محمد حسين فضل الله.

حدث بعد ذلك بزمن طويل، أن» تحدّت» الحكومة اللبنانية في أيار/مايو 2008 حزب الله بمحاولة إنهاء شبكة اتصالاته «المستقلة» فغزا بيروت وأجبر الفرقاء على التسليم من جديد لمتطلباته. بالنسبة للآخرين، فإنهم يرون آخر منجزات «الثورة الإسلامية» وأكبرها في ما استطاعت سياسات الحرس الثوري وحزب الله بعدوانيّتها العمياء تحقيقَه، من انزياح نسبي في الرأي العام العربي باتّجاه قبول وجود إسرائيل، واعتبارها عاملاً مساعداً على لجم الخطر الإيراني – الحزب اللهي. تلك مأثرة لا بدّ من تسجيلها مباشرة بعد طول تهرّب وتجاهل.. لقد تمكنت تلك السياسات من المساهمة بقوة في» تطبيع» إسرائيل أخيراً- وليس معها في الظاهر- وعن جدارة… وذلك تحوّل تاريخي وحيد الاتّجاه. ما حدث منذ عامين من ثورة شبابية سلمية وحديثة تنشد التغيير المتأخّر كثيراً، كان استفزازاً أكبر بكثير لحزب الله، ومن ورائه لإيران، لأن ذلك الحراك، رغم مطالبته بالتغيير الشامل الذي يشمل الجميع، كان قد توجّه خصوصاً إلى حزب الله، الذي لم يفسد صيغة الدولة ومهامها الطبيعية وحسب، كما يفعل» الجميع» بل أسّس دولة موازية تفوق تلك بدرجة احتكارها للعنف، ولا تعترف بكلّ مبادئها لا في الاقتصاد ولا الاجتماع ولا السياسة. في تلك الدولة الموازية ومن» سردابه» أو مخبئه السري، يقود زعيم الحزب وشيخه، ويتحكّم بالمسارات والسياقات، ويبقي مساراته وسياقاته الخاصة معزولة عن أي تأثير، مهما تعارضت مع الأصول المرعية والمتعارف عليها، والقوانين المحلية والدولية. وقد أفقدت الثورة اللبنانية قيادة الحزب صوابه وأخرجته من رصانته التي كان يدّعيها، بما تحمله من نُذر على البساط الذي يقف عليه، حيث هدّد نصرالله الآخرين بأن وراءه مئة ألف مقاتل، يمكنهم دخول أي معركة والانتصار فيها؛ ملمّحاً إلى الجيش قبل التلميح إلى القوات اللبنانية؛ والانتصار بالطبع أيضاً في معركة الانتخابات القريبة.

وقد أثبتت حوليّات قرن مضى، أن للأيديولوجيا العرقية والدينية والقبلية قدرةً خاصة على استخدام العنف وسيلة في الصراع السياسي. ظهر ذلك مع العنصرية النازية مثلاً – التي هلّل عرب كثيرون لها- وما جاء في الولايات المتحدة من عنصرية بيضاء عبّرت عنها قوى مثل الكوكلوكس كلان، أو منظمات تفرّعت عنها حديثاً؛ ومع قبلية الهوتو في رواندا في مثلٍ آخر؛ ومع «داعش» و»القاعدة» وأترابهما في مثل ثالث… وفي حزب الله اللبناني وأشياعه من المتدخّلين في سوريا دعماً لنظام قام على المعادلات نفسها، والحوثيين في اليمن، ومن المحتشدين بأسلحتهم في العراق. وفي كل الأمثلة يقوم المشروع على نفي الدولة وتدمير حظوظها، لمصلحة العرق أو القبيلة ونخبهما.. أو نخبة المذهب التي هيمنت عليه في البداية. في بلادنا أو منطقتنا، التحمت القومية بالمذهبية، فأصبحتا» قومية – إسلامية» و»إسلامية – قومية» مع انقسام القومية إلى فروع، والإسلام إلى مذاهب أو طوائف، بذلك كانت المصلحة القومية الإيرانية موصولة بمفهوم «الوليّ الفقيه»؛ تحاول أن تربط بين» المصلحة القومية العربية» في مواجهة الإمبريالية وإسرائيل ومفهوم حزب» السيّد» الذي كان من أسمائه «سيّد المقاومة» أحياناً، تمييزاً سورياً له عن» سيّد الوطن». ويعبّر حزب الله ومؤسسوه عن طموح غير محدود، من خلال ورود باب صعب ومفتوح على كلّ المفاهيم المطلقة حتى النهاية، حين يقول إنه «حزب الله» وليس حزباً لطبقة أو شعب أو هدفٍ محدّد، إمعانا في العصبية قادرا على الوصول ببساطة إلى المجازر. سبق حزبُ الله في ذلك» بوكو حرام» النيجيرية و»جندَ الله» الإخوانية و» جيشَ الرب» الأوغندية وغيرَها، من الذين يغذّون عنفهم بالطقوس، ويخرجون من ثَمّ من الأليف المألوف – الإنساني إلى عالم السيطرة والتخلّف والدماء. كما أنه حين يحارب بعض هؤلاء بعضهم الآخر، يتجلّى حنانهم إلى جانب عصبياتهم، لأن الكلّ يدرك أن وجود هذا» الآخر» شرط لاستمرار وجوده، لذلك يبدو من العبث الاعتماد على وجود أحد هذه الأطراف لإضعاف الآخر، حتى من الناحية التكتيكية، لأن» الضدّ يظهر حسنه الضدّ» ويشحذ من طاقاته ومقوّماته أولاً، ولأن وجوده يعطي شرعية ما لوجود الطرف المقابل، فنخسر في الحالات كلّها، ومع الرابحين والخاسرين في تلك المعارك، ولذلك فإن وجود إسرائيل نفسها وعدوانيتها شرط لوجود حزب الله، الذي يتمسّك بلبنانية مزارع شبعا المسكينة، كورقة مدعوكة تهبه شرعية من نوع لا يتوقف عنده هو ذاته. وربّما يكون لدوره في المفاوضات مع إسرائيل حول ترسيم الحدود البحرية دلالة فاقعة على حقائق أموره. ذلك كلّه مسار، ومسار لبنان منذ الرابع من آب/أغسطس في العام الماضي مسار آخر. يومها بلغ مخزون نترات الأمونيوم في مرفأ بيروت، المتروك بشكل علني مكشوف لاستجرار ما يلزم منه لحزب الله أو النظام السوري – كما تدلّ كلّ المؤشرات- بلغ «الكتلة الحرجة» المعروفة في التفجير النووي. هذه الكتلة الحرجة هي الحدّ الأدنى من المادة الانشطارية، الكافي لإقلاع تفاعل متسلسل يعطي طاقة انفجار هائل.. وحدث ذلك على هامش المناورات حول إعادة الاتفاق النووي مع إيران إلى الحياة. فكأنه كان شيئاً من نبوءة أو بشارة أو نذير شؤم. استطاعت تلك الكمية الهائلة من النترات، القابلة للاستخدام في تصنيع» البراميل» الأسدية، أو تفجيرات حزب الله، أن تحدث انفجاراً كاد ينهي حاضر بيروت ومستقبلها، من غير أن يرفّ جفن لسادة الوطن والمقاومة. وهذا هنا بغضّ النظر عن الصاعق الذي بدأ الانفجار، لأنه ثانوي في الأمر.

حزب الله وربعه في لبنان وغير مكان، هو القنبلة النووية الإيرانية الجاهزة على أهبة الاستعداد دائماً، لا يتمّ التفاوض عليها في فيينا. هذا الخطر يتجسّد في انشطارات متتالية في لبنان وسوريا واليمن والعراق، وقد يتسّع في أماكن أخرى، تُركت مؤقتاً بسبب مصالح مختلفة قليلاً، حتى الآن. من مفرزات تلك الحالة نفسها، ما نتج من أزمة مؤخراً بعد إعادة تنشيط تصريحات معروفة لوزير الإعلام في حكومة نجيب ميقاتي جورج قرداحي، المعروف بعواطفه نحو النظام السوري وحزب الله. لم تكن تلك التصريحات- ربّما كنترات مرفأ بيروت- مقصودة في ذاتها ولذاتها، ولا الوزير المعنيّ أيضاً. هي نتاج طبيعي لسياسات حزب الله، ما لم ينعكس في أزمة قرداحي ستنعكس في» مصادفة» أخرى.. ولعلّها ليست سبباً لسياساته أيضاً، بل لوجوده ولطموحات قيادته في لبنان وطهران. فلا يمكن لوضع شاذّ كما نراه إلّا إنتاج أزمة بعد أزمة، تزيد فشل الدولة في لبنان وسوريا واليمن والعراق – لا سمح الله – وتحوّلها إلى بنية» ثورية» قابلة لنموّ الفوضى والجريمة وتبييض الأموال، وتجارة العنف والمخدّرات والسلاح.

وأصبح الوضع على حافة تلك الهاوية، لا تقدر على مواجهته إلّا شجاعة المتضررين؛ وهم الغالبية الساحقة؛ ووحدتهم على رؤية ثورية في مواجهة تلك الثورية قادرة على خنقها.. لو توفّرت الظروف الخارجية والداخلية الملائمة. هل من حلّ لكيان أخطر من قنبلة نووية، قادر على تفجير ما يشبهها في المفاعيل؟ هل يمكن قطع إمداده، وخطوط إمداده، ونزع سلاحه.. وقطع علاقته القائمة على المصالح القريبة، أو الخوف والترهيب مع حاضنته الاجتماعية والطائفية التي انطلقت من حرمانها نحو أحضان الحزب، لتجد حرماناً وارتهاناً أيضاً في أحضانه.. وهذا ممكن وضروري. لقد ابتدأ الأمر من لبنان، ولعلّ نهايته تبدأ منه أيضاً!

وسوم: العدد 955