أيامنا الجميلات ؟!

أيامنا هذه ألفيناها في خضم حياة أمواجها متلاطمة ، وميادينها مغبرة ، ومساراتها مبهمة . لويتُ عُنق وجهتي أبحث عن أيامنا الجميلات التي كنا نعيشها في أحياء مدينتا التي حبَتْنا بمزايا براءتنا وبساطة حياتنا ، أبحث عن طمأنينة ماكانت تفارق غدوَّنا ورواحنا ، أبحث نسائم المودة التي كانت رسائلنا للأهل والأرحام والجيران ولجميع خلق الله ، والذين هم عيال الله على أرضه ، وأحبهم إليه سبحانه  أنفعهم لهم . ولم نكن نريد أن نتعرف على حقد يأكل قلوبنا ، ولا على أذى نعتدي به على أحد . كانت أيامنا جميلات ، تظللها السكينة ، وتطرزها البراءة التي هي أريج الفطرة الصافية التي فطر الله عليها مَن برأ على امتداد هذه الغبراء وعلى امتداد مابقي من عمر الحياة الدنيا .

لنا ماضٍ قريب وبعيد ، ماض يزخر بالعبر والمواعظ ، ويفيض  بالقيم التي باركها الله لعباده ، فكان الماضي مدرسة وثَّقت ما لا يُمحَى ، وحفظت ما لا يمكن أن يُنسَى ومنه نأخذ بل نتخيَّر الدروس النافعة ، والتي نترجمها إلى أعمال نرجو أن تكون لصالحنا وصالح أمتنا والناس أجمعين  .

ولنا حاضر نعيشه بما فيه المكابدات التي تكاد تمحو مايُسَمَّى بالطمأنينة والمسرات ، وبتنا على بسط المصابرة ، وعلى متكآت الأحزان ، لِما حلَّ بأحيائنا ومدننا وقرانا ، والأهم بما أوقعت فيه قلوبنا وصدورنا من الآهات والحسرات . هكذا هو واقعنا ، و والله ماكنا نتمناه أن يكون هكذا ، ولكن قدَّر الله وما شاء فعل .

وها نحن نقف على عتبات مستقبل لايعلم أحد ما سيكون فيه . أجل لايعلم أحد مطلقا ماسيكون فيه إلا الله ، حتى هؤلاء الذين يخططون ويرسمون لن يقدروا على تغيير سنن الله الغالبة ، فالله سبحانه ، وكما قال سيد اليهود حيي بن أخطب مخاطبا أخاه عندما شاهدا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأول مرة في المدينة المنورة : إنه هو إنه هو . وقال له أخوه ماالعمل ؟ قال : بغضه مدى الحياة ، وأنا أعلم أن الله لايغالَب . فالأمر بيد الله ،  ولقد أنبأنا الماضي أن الله أهلك النمرود وفرعون وكانا أشر الناس كفرا وتجبرا ، وأكثرهم عدة وعتادا . وأن الله هزم جنود كسرى وقيصر في مدة قليلة من عمر الزمن . وأرانا ربُّنا ماذا جرى في حربين عالميتن بين الناس ، راح ضحيتها الملايين من البشر .

أجل ... نقف على أبواب مستقبل ونحن في حيرة من أمرنا ، كأفراد وكأمة وكإنسانية تجمعنا على ظهر هذه الأرض . ولقد وهبنا الله العقول التي فجَّرت بإذنه سبحانه وتعالى أسرار الكون ، واخترع الإنسان ما لم يخطر على بال ،  فبهذه العقول إن حافظت على حكمتها وإنسانية أهلها ، ستأتي بالخير والفلاح ، ووهبنا من القدرات الذاتية ، ومن وسائل الحياة الكريمة ما لا يُعد ولا يُحصَى . عندئذ يمكن للإنسان أن يوفر لأخيه الإنسان أسباب الطمأنينة ، ووسائل السعادة ، ويمنع الإنسانُ أخاه الإنسان َ من السقوط في الهاوية ، وعندئذ لاينفع الندم ، ولا تجدي الحسرات وإن تسعرت نارا وأُوارا في الصدور .

الأصل أن نهاية الخلق ستكون واحدة للجميع ، رغم مَن يجحد الوحي ويكفر بما أنزل الله على جميع أنبيائه ولا يؤمن بيوم القيامة . وإنما النهاية هي الحشر يوم البعث والنشور ، ويقف الخلق وكل مخلوق له كتاب أخذه بيمينه أو شماله ، وهناك تنقطع الآمال ، وتتلاشى الحيل ، فليس يومئذ من زينة ولا مال ولا جاه ولا قوة . إذ ذاك القول للأعمال الصالحات ، والقلوب السليمات ، وهناك طريقان إما إلى جنة عرضها السماوات والأرض ، وإما إلى جهنم حيث النار التي لاتطيقها الجبال الراسيات .

فمَن آمن بهذه الحقائق ، واطمأنت نفسُه إلى أيامها فتلكم الأيام الجميلات التي تأتي بأسباب السكينة والسعادة للنفس مهما ادلهمت الآفاق بغبار المحن ، واكتنفت الكون أعاصير الشدائد . فإيجابيات أنوار الهداية والرضا بما قدَّره الله كفيلة بأن تحفظ خطوات المرء ، فلا يخرج عن جادة الصواب ، بل لايتلكأ في فتح أبواب قلبه لِما سيكون ، فما كان وما سيكون إنما هو بأمر الله وحكمته . وتبقى قتامة مسارات الحياة اليومية ، وظلمات مايكتنف المستقبل من مخاوف ، بيد الله وكما يريد الله ، ولعل النوازل والشدائد تصنع إرادة الإنسان إذا  تلاشت ، وتضع بين يديه أوثق مافي الحياة من دروس نافعة ، كما أنها تمنح الإتسان مهاراتٍ عالياتٍ تذلل له الصعوبات التي تثقل كاهليه . وتجعل لنفسه شيئا من التوازن لحياة هادئة مطمئنة ، ذات أبعاد روحانية لطيفة ، وتدابير شديدة الصلة بتوفيق الله ، فلا تضيع النفس المطمئنة ، ولا ترضى أن تكون تلك النفس الأمارة بالسوء .

وسوم: العدد 956