الجيوش والعروش

في البدء كان الصراع بين الجيوش والعروش.

في البدء، أي منذ أن افتتح الانقلاب العسكري المرحلة القومية التي جاءت كرد على هزائم حرب نكبة 1948، عاش المشرق العربي على إيقاع الصراع بين المشروع الناصري وأنظمة الهزيمة، وكان حصاد تلك المرحلة التي كانت أيضاً جزءاً من الحرب الباردة، هو سقوط العرش الهاشمي في العراق، وسقوط عرش الإمامة في اليمن، والوحدة السورية – المصرية التي لم تعمر سوى ثلاثة أعوام.

التناقضات في معسكر الجيوش كانت مدمرة، فدخلنا في صراعات ناصر والشيوعيين، وناصر والبعث، وانتهينا إلى أنظمة الكابوس الانقلابي في سوريا والعراق وليبيا والسودان.

ومع هزيمة حزيران-يونيو 1967 ونهاية الحقبة الناصرية، دخلنا في كوابيس ديكتاتورية معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية.

الظاهرة الوحيدة التي تمردت على مناخ الهزيمة والأفول، أي المقاومة الفلسطينية، دخلت في كوابيس حربين أهليتين في الأردن ولبنان، ثم ترنحت مع اتفاقات أوسلو، لتدخل في شتاء الهزيمة الطويل بعد هزيمة الانتفاضة الثانية، واغتيال ياسر عرفات.

لا أسعى إلى تأريخ مرحلة غنية بالتناقضات، كشفت حدود المرحلة الانقلابية وسقوطها المبكر أسيرة الاستبداد الذي أفقد الانقلاب الصلة بجذوره الشعبوية، فهذا التأريخ هو سجل لفشل النهضة الثانية، ولقصور فكري وسياسي يحتاج إلى دراسة خاصة به.

لكن مشهد انبطاح الجيوش الحاكمة أمام سطوة العروش التي ثارت عليها، يستحق أن يُسجل بصفته تعبيراً عن الانزلاق الأخير في حفرة الخراب التي دفعنا إليها النظام العربي حين نجح في وأد الربيع العربي، محولاً حواضرنا إلى خراب.

زيارة الشيخ عبد الله بن زايد إلى دمشق تقع في هذا السياق، بتعقيداته الجديدة التي أدخلت ايران طرفاً في المعادلة، بحيث صار المشرق العربي ملعباً لصراع قوتين استبداديتين: السعودية وإيران.

لا تقول الزيارة جديداً إلا لأنها نجحت في قول كل شيء دفعة واحدة.

وسط ضجيج «اتفاقات إبراهيم» التتبيعية، وصمت الممانعة المريب أمام الهندسات الروسية للقصف الإسرائيلي المتواصل على المواقع الإيرانية في سوريا، جاءت زيارة وزير الخارجية الإماراتي إلى دمشق الشام لتفضح كل المسكوت عنه.

لقد انتصرت الثورة المضادة ونجح الاستبداد في سحق انتفاضات الربيع العربي تحت جنازير الدبابات، ورماها في أتون حروب طحنت المشرق، لعب فيها الأصوليون التكفيرون دور الوجه الآخر للاستبداد.

هناك حلف معلن وسري بين الجيوش والعروش، تتفتق في داخله صراعات طائفية وحشية، من اليمن إلى لبنان وصولاً إلى ليبيا. لكن هذه الصراعات لم تستطع أن تحجب حقيقة أن الاستبداد بأشكاله المختلفة، هو حليف وتابع للاحتلال الإسرائيلي. أما صغار اللاعبين، كما في الحالة اللبنانية، فهم مجرد أدوات موضعية لا علاقة لها بالموضوع.

الجيوش العربية التي قامت بانقلاباتها بحجة مواجهة النكبة والهزيمة، تحولت إلى عنوان الهزيمة. جيوش عاجزة ومتبطلة ولا تجرؤ على مواجهة العدو القومي، تحولت إلى أدوات في أيدي طغم عسكرية ومالية لقمع الشعوب ونهبها وسحقها، وتدمير الأوطان.

انظروا إلى الخريطة، من السودان الذي يحاول البرهان وطغمته استباحته بسلاح تحالفه الوثيق مع الإمارات وإسرائيل، إلى لبنان الذي ينهار تحت وطأة ثلاثة حصارات: حصار الطغمة الأوليغارشية التي دمرت الاقتصاد ونهبت كل شيء، والحصار الإيراني الذي رهن البلاد للتسوية المأمولة بين إيران والولايات المتحدة، والحصار السعودي المستجد، وصولاً إلى ليبيا حيث وجد الجنرال حفتر، الحالم بأن يصير ديكتاتوراً، أن الطريق إلى السلطة تمر عبر إرسال ابنه إلى إسرائيل كي يحفر قبراً لبلاده المنكوبة.

كل تصرف يأتي بحجته، لكن كل الحجج فارغة من المعاني. فمع انهيار توازنها الداخلي بسبب رعبها من السقوط في عالم متغير، فقدت الأنظمة العربية لغتها. كانت اللغة القديمة لغواً كاذباً، كما يعرف الجميع، لكنها كانت تخفي فراغها بابتذال المعاني. من شعارات العروبة والتقدمية إلى شعارات الأصالة والتمسك بالموروث الديني.

الجديد هو أن النظام العربي بجيوشه وعروشه، بممانعته اللفظية وانبطاحه، يبحث عن لغة كاريكاتورية لا تستقيم فيها المعاني. فالمعاني اليوم هي مِزق من أوهام الفرجة.

شعوب تتحول إلى مجموعات من اللاجئين والمتسولين، تتفرج على شيوخ النفط وجنرالات العسكر المهزوم وهم يسجدون أمام المستوطنين في فلسطين المحتلة. عالم من الغرائب، يصل إلى ذروته العبثية في لبنان الذي يُحتضر كل شيء فيه، على إيقاع كلامولوجيا تريد إعادته إلى صفر الحرب الأهلية.

إننا نعيش انقلاباً جذرياً في فلسفة الاستبداد العربي، ولعل المختبر السوداني هو النموذج الأفضل الذي يبرهن ما لم يعد هناك من حاجة للبرهنة عليه. فإسرائيل هي حامية الاستبداد بكل أشكاله.

كانت المعادلة قائمة على استخدام لغة العداء لإسرائيل كأداة لفرض القمع وتأبيد الاستبداد، أما في الزمن المعولم الجديد، فقد صار استمرار الاستبداد مرهوناً بارتماء المستبدين في الحضن الإسرائيلي.

عبد الفتاح البرهان وحلفاؤه الجنجويد يمثلون اليوم وجه هذا النظام المهيمن وصورته الواضحة. انقلابيون ينكرون صفتهم، يقومون بسرقة ثورة شعب انتفض ضد دكتاتورية عمر البشير، ليعيدوا إلى الواجهة كل رموز الدكتاتور المخلوع، بعدما انتهت صلاحية الرجل.

زمن يسعى إلى تحويل حلم الحرية إلى كابوس استبدادي، ويستبدل الثقافة بالتفاهة، والرؤية المستقبلية بالفرجة على إنجازات تلفزيونية وإعلامية تشترى بأموال حرام سرقت من الثروات الطبيعية، وصارت على أيدي الجيوش والعروش بدداً.

هذه الصفحة الجديدة من تاريخ العرب لا تـــستطيع أن تستمر، لأن الذين يقومون بتزوير واقعنا هم عـــصابات من اللـــصوص، وستـــقودهم تناقضاتهم المـــصلحية إلى الخراب. لكن يجب أن نعترف لهم بإنجازهم الكبير، فقد قاموا بتخريب حاضرنا بطريقة وحشية ومبتكرة، وعلينا أن نعيد التقاط حبات الضوء من ثقوب العتمة، كي نستعيد حــقنا في الحياة.

وسوم: العدد 956