سيدُ قطب.. المجددُ الثاني في العصر الحديث

لقد كان اليومُ الثالثَ عشرَ من جُمادى الأولى 1386 هج الموافقُ التاسعَ والعشرين من آب 1966 يوماً مشهوداً، يوماً أغر محجلاً، يوماً حافلاً بآيات الله الكبرى. 

لقد ارتجت الأرض كلها، وهللت وكبرت، وطيورها غردت، وصدحت بأعذب الألحان، والسماء ازينت بأبهى حللها، وأجمل لباسها، وتعطرت بأريج الزهر الفواح، وشذا الياسمين الغناء، وعبير المسك الزكي، وهفهفت روائح الطيب الندية في كل مكان. 

 واحتشدت الملائكة الكرام، لاستقبال أزكى وأطهر روح صعدت إليها في ذلك اليوم العظيم المجيد، إلا أن تكون هناك أرواح أخرى تماثلها في الطهارة، والنقاوة، والصفاء لا يعلمها إلا علام الغيوب سبحانه وتعالى.  

لقد صعدت في ذلك اليوم المجيد الأغر المحجل.. ذلك اليوم العظيم الخالد، روحُ سيد الشهداء، سيد قطب رحمه الله تعالى، الذي ينطبق عليه الحديث الشريف عن جابر بن عبد الله (سيِّدُ الشُّهداءِ : حمزةُ ، ورجلٌ قامَ إلى إمامٍ جائرٍ فأمرَهُ ونهاهُ ، فقتلَهُ). 

وها هي الملائكة تحتشد، وتزدحم، وتتسابق وهي: تُنشد أعذب الألحان؛ فرحة ومسرورة باستقبال روح سيد الطاهرة الزكية، حسب الوصف الذي جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة (حديثُ أن المؤمنَ تحضرهُ الملائكةُ فإذا كانَ الرجلُ الصالحُ قالوا اخرجِي أيّتُها النفسُ الطيّبةُ كانت في الجسدِ الطيّبِ اخرجي حميدةً وأبشري بروحٍ وريحانٍ وربٍّ غيرِ غضبانٍ فلا يزال يُقَالُ لها حتى تخرجَ فيُعْرَجُ بها حتى ينتهي بها إلى السماءِ فيُستفتحُ لها فيقالُ من هذا ؟ فيقالُ فلانُ ابن فلانٍ فيقال مَرْحَبا بالنفسِ الطيبةِ كانت في الجسدِ الطيبِ ادخلي حَمِيدَةً وأبْشِري بروحٍ وريحانٍ وربٍّ غيرِ غضبانٍ فلا يزالُ يقال لها ذلك حتى ينتهي بها إلى السماءِ التي فيها اللهُ عز وجلَ). 

فهنيئاً لك يا سيدَ الشهداء! تلك المنزلةَ الرفيعةَ، العاليةَ، السامقةَ، التي بوأك الله إياها {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تجري من تحتها الأنهار} العنكبوت 58. 

وسحقاً وتعساً لعدوك الأكبر عبد الناصر، الذي أعلن من موسكو عاصمة الاتحاد السوفياتي في ذلك الوقت، حكم إعدامك، لكي يرضى عنه الاتحاد السوفياتي والغرب معاً.  

وسحقاً وتعساً لكل من يعادي سيد من أفراخ المسلمين، ويتهمونه بالتشدد والتطرف، وربما بالدعشنة أيضاً! لأنهم غارقون في مستنقع الشهوات والأهواء.. كما يقول الشعراوي رحمه الله (إذا انحدرت في مستنقع التنازلات في دينك؛ فلا تتهجم على الثابتين بأنهم متشددون! بل أبصر موضع قدميك؛ لتعرف أنك تخوض في الوحل. الحرام يبقى حراماً حتى لو كان الجميع يفعله! لا تتنازل عن مبادئك وإن كنت وحدك تفعلها، دعك منهم فسوف تحاسب وحدك. "وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً". فاستقم (كما أمرت) لا (كما رغبت).  

سيد قطب.. هو سيد الشهداء   

وكيف لا يكون سيدَ الشهداء بكل جدارة وأحقية، رغم أنف السفهاء من سلالة المسلمين، والشانئين، والمبغضين له؟! وإذا لم يكن هو سيد الشهداء.. فمن يكون غيره؟! 

 وكل علماء الدين في عصره وفي هذا العصر – إلا قليلاً منهم – يُطبلون ويزمرون للحاكم، ويؤلهونه، ويعبدونه من دون الله، بطاعتهم لأوامره التي تحل الحرام وتحرم الحلال، وينبطحون له، ويبيعونه الفتاوى التي توافق هواه، لقاء دريهمات معدودة، ولقاء الحفاظ على حياة ذليلة، دنية، تعيسة، بئيسة. 

كيف لا يكون سيدَ الشهداء؛ وقد أمضى سيدُ حياته يقارع طغيان جمال عبد الناصر، وكفره، واستبداده حتى ضاق به، وملَّ من كتاباته الجريئة، الشجاعة التي تعلن بكل صراحة ووضوح، كفر من لم يحكم بشرع الله استناداً إلى قول الله تعالى: (ومنْ لَمْ يَحكُمْ بما أنزل اللهُ فأولئك هم الكافِرونَ) المائدة 44.  

{إن الشرك في صميمه هو الاعتراف لغير الله - سبحانه - بإحدى خصائص الألوهية. . سواء كانت هي الاعتقاد بتسيير إرادته للأحداث ومقادير الكائنات. أو كانت هي التقدم لغير الله بالشعائر التعبدية والنذور وما إليها. أو كانت هي تلقي الشرائع من غير الله لتنظيم أوضاع الحياة. . كلها ألوان من الشرك, يزاولها ألوان من المشركين , يتخذون ألوانا من الشركاء!} الأنعام ص 72.  

كيف لا يكون سيدَ الشهداء؛ وهو الرجلُ الوحيدُ الذي صدع بالحق، وقاوم الباطل، بكل بطولة، وشجاعة، وإباء، وشموخ لا نظير له، في الستمائة سنة الماضية، من بعد موت شيخ الإسلام ابن تيمية في السجن في أوائل القرن الثامن الهجري. 

يعتبر سيدُ! المجددَ الثاني في القرن الماضي، بعد المجدد الأول حسن البنا رحمهما الله.. إذ أن الأول كوَّن، وصنع جيلاً مؤمناً، وشكل جماعةً مسلمةً، على نهج الجماعة المسلمة الأولى التي صنعها على عينه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة ثم في المدينة.  

والثاني: وضع لها المنهاج التربوي، والجهادي، والحركي، مستوحى من كتاب الله تعالى، دون زيادة ولا نقصان، بلغة عربية قويمة، سهلة الفهم، والاستيعاب، والادراك بدون إفراط ولا تفريط . 

سيد قطب بين طبيعة هذا الدين بكل وضوح  

 

لقد بين سيدُ طبيعة هذا الدين، الذي غطاه ركام الجاهلية عبر العصور، فأصبح لدى أخلاف المسلمين - إلا قليلاً منهم - اضطراب في فهم الدين، وقصور في إدراك معانيه، ومراميه، وأهدافه.. فظنوا واعتقدوا أنه مثل الكهنوت النصراني، عبارة عن طقوس، وحركات تؤدى في المساجد، وعبارة عن تعلم فقه تلك الطقوس وكفى. 

{إن هذا الدين إعلان عام لتحرير "الإنسان" في "الأرض" من العبودية للعباد - ومن العبودية لهواه أيضاً وهي من العبودية للعباد - وذلك بإعلان ألوهية الله وحده - سبحانه - وربوبيته للعالمين. . إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها ; والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور. . أو بتعبير آخر مرادف: الألوهية فيه للبشر في صورة من الصور. . ذلك أن الحكم الذي مرد الأمر فيه إلى البشر, ومصدر السلطات فيه هم البشر , هو تأليه للبشر , يجعل بعضهم لبعض أرباباً من دون الله . . إن هذا الإعلان معناه انتزاع سلطان الله المغتصب ورده إلى الله ; وطرد المغتصبين له ; الذين يحكمون الناس بشرائع من عند أنفسهم فيقومون منهم مقام الأرباب ; ويقوم الناس منهم مقام العبيد. . إن معناه تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض}. الأنفال ص 6. 

إن عظمة سيد! ليست في أنه جاء بمفهوم جديد للدين! كلا ثم كلا.. وإنما جاء ليبين الطبيعة الأصيلة له، والتي لأجلها جاء كل الرسل يدعون إليها، وهي هيمنة الدين على كل شؤون الحياة بكل تفاصيلها، والتي تغافل عنها أخلاف المسلمين، وتجاهلوها كلياً، واقتصروا في فهمهم للدين على جزئيات معينة، تركز على الشعائر التعبدية فقط . 

{من دان لغير الله وحكم في أي أمر من أمور حياته غير الله, فليس من المسلمين وليس في هذا الدين}. يوسف ص 18. 

(إن الحكم إلا لله. أمر ألا تعبدوا إلا إياه . ذلك الدين القيم)

{إن الحكم لا يكون إلا لله . فهو مقصور عليه سبحانه بحكم ألوهيته ; إذ الحاكمية من خصائص الألوهية. من ادعى الحق فيها فقد نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته ; سواء ادعى هذا الحق فرد , أو طبقة , أو حزب . أو هيئة , أو أمة , أو الناس جميعا في صورة منظمة عالمية . ومن نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته وادعاها فقد كفر بالله كفرا بواحا}. يوسف ص 50. 

هذه التقريرات التي يعلنها سيد، استناداً على التقريرات الربانية الواردة في القرآن، كانت معروفة لدى جيل الصحابة، ومن بعدهم جيل التابعين، وتابعي التابعين، إلى قبل عدة مئات من السنين الأخيرة.  

وما كانت بحاجة إلى مزيد من البيان، والتوضيح، والشرح، والتفصيل.. إلا في العصر الأخير، بعد تمزق، وتشرذم المسلمين شذر مذر، وهيمنة الكافرين المستعمرين على بلاد المسلمين.. فأصبح مفهوم الدين باهتاً، غامضاً، هزيلاً، مقتصراً على أداء الطقوس الدينية فقط. 

ومن ثَمَّ! هيأ الله تعالى لهذه الأمة، من يجدد دينها في أوائل القرن الماضي، ثم هيأ رجلاً عظيماً لا يخاف في الله لومة لائم، ليبين ويوضح ويشرح حقيقة هذا الدين.. 

استناداً إلى الحديث الصحيح عن أبي هريرة (إنَّ اللَّهَ يبعثُ لِهَذِهِ الأمَّةِ على رأسِ كلِّ مائةِ سنةٍ من يجدِّدُ لَها دينَها). 

 فكان سيد! هو سيد البشرية جمعاء في هذا العصر الحديث، بكل فخر، وبكل جدارة، وبكل أهلية، وكفاءة قل نظيرها. 

وسوم: العدد 960