نظرات في هجرة الحبشة

[باختصار، من كتاب الجهاد في الإسلام، لمحمد شديد، ص 43-50]

لماذا وقع اختيارُ الرسول صلى الله عليه وسلم على الحبشة بالذات لتكون دار هجرة لأصحابه؟ وهل بعث بهم إليها دون إعداد واتفاق مع دولتها على قبولهم وترتيب إقامتهم فيها؟

هل من المعقول أن يبعث الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا العدد الكبير من المؤمنين، إلى بلد بعيد، وفيهم مؤمنات وأطفال من أكرم بيوت قريش، دون أن يضمن لهم فيها حياة هادئة مطمئنة، ودون أن يكون واثقاً من أنهم لن يتعرضوا لمحنة من لون جديد قد تكون أقسى من محنة مكة؟

الراجح الذي تطمئن إليه النفس، أنه قد أعد لهجرة أصحابه إعداداً كاملاً قبل أن يخرجوا من مكة، حتى إذا وصلوا إلى الحبشة، استقبلهم ملكها أكرم استقبال، ووجدوا أنه قد أعدّ لهم وسائل إيوائهم ومعيشتهم وحمايتهم على خير وجه.

ولا شك أن اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم للحبشة لتكون داراً لهجرة المؤمنين، كان له علاقة وثيقة بوحدة الدين التي تربطهم بأهل الكتاب، والتي جعلها القرآن أصلاً من أصول العقيدة، كما كان له علاقة بشخصية النجاشي وعقيدته، فقد كان من الطائفة التي لا تقول بألوهية عيسى عليه السلام، أو ببنوّته لله تعالى، بل كان يؤمن بأنه نبي، وبأنه بشّر برسول يأتي من بعده اسمه أحمد، فلما سمع ببعثة الرسول بمكة، وقد كانت الصلة التجارية مستمرة بين البلدين، بدأ في الاتصال به، وبعث الرسول صلى الله عليه وسلم إليه مَن يدعوه إلى الإسلام أو يفاوضه في هجرة أصحابه إلى بلده.

وقد ذكر ابن هشام في سيرته رواية لها مدلولها في هذا المقام، قال: " قدِمَ على رسول الله وهو بمكة عشرون رجلاً أو قريب من ذلك من النصارى، حين بلغهم خبره من الحبشة، فوجدوه في المسجد فجلسوا إليه وكلّموه وسألوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا من مساءلة رسول الله عما أرادوا، دعاهم إلى الله تعالى، وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا لله وآمنوا به وصدّقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره، فلما قاموا عنه، اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش، فقالوا لهم: خيّبكم الله من ركب، بعثكم مَن وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم، لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه، ما نعلم ركباً أحمق منكم. فقالوا لهم: سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه، ولكم ما أنتم عليه، لم نألُ أنفسنا خيراً ".

وفي هذا الوفد نزلت الآيات:

(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ. وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ. أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ. وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا: لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ، سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ). {سورة القصص: 52-55}.

وقد ذكر ابن كثير في تفسيره عن الوفد الذي نزلت فيه هذه الآيات قال: "سألتُ الزهري عن هذه الآيات: فيمن نزلن؟ قال: ما زلت أسمع من علمائنا أنهن نزلن في النجاشي وأصحابه".

ومع أن كتب السيرة لم تربط بين هذا الوفد وبين هجرة الحبشة، فإن الظاهر أن قدوم الوفد إلى مكة كان له صلة وثيقة بهذه الهجرة، وأنه جاء نتيجة اتصال الرسول صلى الله عليه وسلم بالنجاشي والاتفاق معه على إيواء المهاجرين.

ثم إن هجرة الحبشة كانت على دفعتين، الدفعة الأولى من قلةٍ فيها عثمان بن عفان وزوجته بنت رسول الله، ولم تمكث بالحبشة إلا مدة قصيرة ثم عادت إلى مكة، والغالب أنها كانت وفداً بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم لمقابلة النجاشي، والاطمئنان منه على استعداده لقبول المهاجرين، ثم عاد الوفد إلى الرسول بما تم الاتفاق عليه، فهاجر المسلمون بعد ذلك على هذا الأساس.

ثم إن الثابت أن النجاشي قد أسلم، وأن شعبه ثار عليه بسبب إسلامه، وأنه في أثناء هذه الثورة بعث جعفر بن أبي طالب أمير المهاجرين، وهيأ لهم سفناً وقال لهم: " اركبوا فيها وكونوا كما أنتم، فإن هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم، وإن ظفرت فاثبتوا ". وهو عمل يدل على اهتمامه الكبير بأمر المهاجرين، وأنه لم يكن مجرد رئيس دولة قبِل جماعة من اللاجئين إلى دولته، إنما كان مؤمناً يُعنى بسلامة إخوانه المسلمين، فضلاً عن أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يتزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان – إحدى المهاجرات- بعث إلى النجاشي مع أحد أصحابه يوكله في هذا الزواج، وقد قام بعقد النكاح، ودفع المهر نيابة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأولَمَ للمؤمنين وليمة كبيرة وأهدى إليهم الهدايا. ولما مات النجاشي، صلى عليه رسول الله صلاة الغائب بالمدينة.

* * *

ونتساءل هنا عن الباعث الحقيقي لهذه الهجرة، هل كان لمجرد الفرار من الأذى والعذاب؟

إن الذين هاجروا إلى الحبشة كانوا جميعاً من ذوي القوة والمنعة، الذين كان لهم من عصبيتهم ما يدفع الأذى عنهم إلى حد كبير، أما الموالي المستضعفون الذين كانوا يتلقون معظم التعذيب، فلم يهاجر منهم أحد، وظلوا في مكة حتى نهاية العهد، وقد كانوا أحق بالهجرة والنجاة.

فلماذا هاجر الأقوياء وبقي المستضعفون إن كان الفرار هو الهدف من الهجرة؟

ولماذا هاجر نساء من بين أشراف قريش، ولم تتعرض إحداهن لأذى أو فتنة؟

ولماذا هاجر أبو موسى الأشعري ومؤمنو اليمن ولحقوا بإخوتهم بالحبشة، وقد كانوا بعيداً عن مكان المعركة، ولم يثبت أنهم تعرضوا لمحنة، أو وقع عليهم تعذيب؟

ولماذا بقي معظم المهاجرين بالحبشة ومنهم جعفر حتى السنة السابعة من الهجرة، بعد أن أصبح للإسلام دولة قوية بالمدينة، وقويت فيها شوكة المسلمين؟

الواقع أن هذه الهجرة لم تكن لمجرد الفرار والنجاة، إنما كانت أولى محاولات الرسول المتكررة، التي بذلها في البحث عن مكان آمن، عن قاعدة جديدة، يتجمع فيها المؤمنون وتصلح مركزاً جديداً لدعوته يقيم فيها مجتمعه ودولته.

ولعل التفسير المعقول لبقاء عدد كبير من المهاجرين بالحبشة حتى السنة السابعة من الهجرة، أن الرسول كان يهدف إلى إبقاء عدد كبير من المؤمنين بعيداً عما يتعرض له أصحابه في المدينة نتيجة حرب المشركين واليهود، وأراد أن يحتفظ بهذا العدد في الحبشة رصيداً سالماً مُؤمَّناً لما تسفر عنه الأحداث، وقد كانت عودتهم إلى المدينة فعلاً بعد عهد الحديبية، أي بعد انتهاء الحرب بين المسلمين ومشركي قريش، وبعد الانتهاء من أمر اليهود.

* * *

ولقد كان موقفه صلى الله عليه وسلم من مشركي قريش موقفاً عظيماً، ويكفي أنه كان يقوم بتلاوة القرآن عليهم في مجالسهم حول الكعبة، وفيه الآيات التي تهاجم عقائدهم وتسفه أحلامهم، والآيات التي تقذف بالحمم في وجوه زعائمهم، وقد كانوا يضيقون بذلك أشد الضيق كما يصورهم القرآن:

(وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُون). {سورة القلم: 51}.

(وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ. يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا). {سورة الحج: 72}.

وقد تحمل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المواقف وحده طول العهد المكي، وجنب أصحابه جميعاً هذا العنت، بل إنه بعث بالأقوياء منهم إلى الحبشة، وبقي مع المستضعفين، ووقف وحده في مواجهة قريش، وتلك ناحية أخرى من نواحي شخصيته، كان لها أكبر الأثر في انتصار الدعوة في هذا العهد.

وسوم: العدد 970