عيد المجانين

نيسان/ أبريل، هو الشهر الذي نحتفل في مطلعه بالكذب، حيث خصص العالم يوماً واحداً في السنة للاحتفال بالكذب والمزاح الثقيل. لكن الأمور تغيرت مع الزمن، ومفهوم الكذب نفسه صار وجهة نظر، بحيث يكاد الفرق بين الكذب والصدق أن يمّحي.

لكن هذا الشهر يحمل ذاكرة جديرة بأن لا تنسى، فهو يذكّرنا بأن رأس السنة كان في مطلع الربيع، وكانت احتفالات ذلك العيد تمتد من الحادي والعشرين من آذار/ مارس إلى الأول من نيسان/ أبريل.

وعندما تغير الوضع مع التقويم الغريغوري في القرن السادس عشر، انتقل عيد رأس السنة إلى الأول من كانون الثاني/ يناير، ونجح هذا التقويم الجديد في تزوير البديهي، وهو أن السنة يجب أن تبدأ مع يقظة الطبيعة في الربيع. وتحوّل اليوم الأخير من عيد رأس السنة القديم إلى أضحوكة، وصار يوماً مخصصاً للكذب.

غير أن الأول من نيسان/ أبريل عُرف في أوروبا في القرون الوسطى بكونه عيداً للمجانين.

«عيد جميع المجانين» اختفى من الذاكرة الأوروبية مع أنني أعتقد أن تخصيص يوم للاحتفال بالمجانين كان ولا يزال ضرورياً.

وأنا لا أتكلم هنا عن المرضى النفسيين الذين عانوا ولا يزالون يعانون من القمع والتهميش، فهؤلاء يستحقون الاهتمام والرعاية والاحترام، ككل المرضى الآخرين. فعيد المجانين يجب أن يكون مخصصاً للاحتفال بمجانين السلطة وحمقى التسلط، الذين يتوالدون بشكل دائم، ويقودون البشرية إلى المآسي.

هذه الفئة من المجانين حولت الحياة إلى أكذوبة كبرى، بحيث نشعر أننا نعيش في عالم وهمي، حقيقته الوحيدة هي دماء الضحايا.

تعالوا ننظر إلى نيساننا العربي واللبناني، فنجد الشهر مكتظاً بالمواعيد.

في التاسع من ذلك الشهر عام 1948 جرت مذبحة دير ياسين، وفي العاشر منه عام 1973 اغتيل القادة الفلسطينيون الثلاثة: كمال ناصر وكمال عدوان ومحمد يوسف النجار في فردان في بيروت، وفي السادس عشر منه اغتيل القائد الفلسطيني خليل الوزير أبو جهاد في تونس.

أما ذروة جنون هذا الشهر فكانت في 13 نيسان/ أبريل 1975، حين تحولت مجزرة بوسطة عين الرمانة في ضاحية بيروت الشرقية إلى بداية مسلسل الحروب التي قادت إلى انحلال لبنان.

كما ترون، فإن مزاح نيسان/ أبريل ثقيل ودموي، صنع طقوسه الخاصة بحيث صار من الضروري أن نستعيد عيد المجانين، خصوصاً في هذه الأيام التي يمتطي فيها مجموعة من المهرجين الدمويين خشبة سيرك اسمه العالم العربي.

سيرك نموره مدجّنة كما كتب زكريا تامر في قصته «النمور في اليوم العاشر»، وتحكمه عروش من قصب كما كتب محمود درويش: «قصبٌ هياكِلُنا وعروشنا قصبُ/ في كل مئذنةٍ حاوٍ ومغتصبُ/ يدعو لأندلسٍ إن حوصرتْ حلبُ».

وفي هذا السيرك العربي مهرجون لا يثيرون الضحك، بل يثيرون مزيجاً غريباً من الغضب والأسى، لكنهم يتابعون لعبتهم غير عابئين بمزاج المتفرجين. فهم لا يبالون بنا، يكذبون على أنفسهم ويصدقون أننا نصدقهم!

تسريك العالم العربي يتخذ أشكالاً غرائبية؛ (والتسريك فعل مشتق من كلمة سيرك). لا حدود لخيال المهرجين وأفعالهم، فهم مجانين سلطة محكومة بالأفول والنهاية. لكنهم يعتقدون أنهم قادرون على متابعة لعبتهم التي تتكرر إلى ما نهاية.

وللمصادفة فنحن نشهد في هذه السنة تزامناً للأعياد الكبرى في الديانات الإبراهيمية الثلاث، وهنا نكتشف «ذكاء» مهندسي «اتفاقيات أبراهام» التطبيعية- التتبيعية، التي صارت مطية للعنصرية الإسرائيلية كي تحول الفلسطينيين إلى ذبيحة الفصح اليهودي.

لقد نجحت الصهيونية في جرّ الواقع إلى الأسطورة، فهذا الهوس اليهودي الأصولي بالمسجد الأقصى الذي يطلقون عليه اسم «جبل الهيكل»، حوّل الاتفاقيات الإبراهيمية إلى تسليم شامل بالحكاية الإسطورية اليهودية.

فالأسطورة التوراتية التي تروي عن خروج العبرانيين من مصر لها وجهان: التحرر من العبودية والاستيلاء الاستيطاني على أرض كنعان وطرد شعبها تنفيذاً لوعد أسطوري صنعته المخيلة.

هذا في الحكاية التي يمكن قراءتها من أجل تحليل طابعها السحري والخرافي الدموي، أما في الواقع فإن الأصوليين اليهود حولوا هوسهم بأساطيرهم إلى حقيقة دموية تعيشها فلسطين، وستكون أكثر قسوة وحماقة من حماقات الحروب الإفرنجية التي يطلقون عليها أيضاً اسم الحروب الصليبية.

مسرح الجريمة هذا لم يكن ليتخذ هذا الشكل لو لم يكن العالم العربي كما هو اليوم، محكوماً بعروش من نفط وقصب، ويهيمن عليه مستبدون استباحوا دماء الشعوب وأهدروا كراماتها. عيد المجانين مستمر، وقد اتخذ منذ أيام قليلة شكلاً «ديمقراطياً» يليق بالجمهورية اللبنانية القوية التي وضع أسسها الجنرال عون، وحولت لبنان بأسره إلى ما يشبه بوسطة عين الرمانة المهددة بالانفجار.

ففي الصرفند، في الجنوب اللبناني، وبينما كانت لائحة «معاً للتغيير» التي تضم يساريين ومستقلين تستعد لإعلان برنامجها في مهرجان شعبي، تصدى لها شبيحة الثنائي الشيعي، وقاموا بالتعبير عن رأيهم عبر ديمقراطية العصي والمسدسات والضرب والسحل.

قطعت الطريق أمام حافلات القادمين للاشتراك في الاحتفال، أما الذين كانوا قد وصلوا إلى مكان الاحتفال فصاروا أشبه بالرهائن والأسرى.

يبدو أن الانتخابات النيابية في لبنان التي تجري على أنقاض بيروت وانتفاضة تشرين- أكتوبر، لن تكون أكثر من فخ نصبته العصابات الحاكمة من أجل تجديد شرعيتها الشعبية، عبر ممارسة «ديمقراطية» تمتزج فيها الرشوة والزبائنية والإفقار بالقمع والتخويف والوعيد.

إنه عيد المجانين، فالشهر الذي كان رأس السنة أصبح رأس الكذب، ويصير اليوم على أيدي مجانين التسلط شهراً تتحوّل فيه الأكاذيب إلى حقائق دموية.

وسوم: العدد 977