إلى باب التوبة ... والفلاح

إنها لحسرةٌ تملآ القلبَ حين رُفعتْ صحفُ الرحمة والخير والبر التي كانت كلُّ أبوابها مشرعة لأبناء أمتنا . ويشعر أحدنا شعورا حقيقيا بأنه فقد شيئا مــا ، ولكنه شيء عظيم نفيس لايُقدر بثمن في أسواق دنيانا الفانية . غادرنا شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ، فشعرنا بكآبة ، بل بخسارة كبيرة اجتاحت أقطار أمتنا . فقد كنا نرتع ــ فعلا ــ في مغاني الرحمة والرضوان ، ولكننا ولله الحمد ماتزال رحمة الله تغشى مَن يأتي أبوابها من جديد ، فموسم الخير العميم يتجدد ، وعسى يتجدد إيماننا كلَّ يوم باللجوء إلى بارئتا سبحانه وتعالى ، نسأله التوبة والمغفرة ، وهذا الباب كان ولم يزل مفتوحا لمَن أسرف وأذنب ، وعصى الله ، أو نسي قيمة القوة الروحية لتلاوة القرآن الكريم ، وذكر الله آناء الليل وأطراف النهار .فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيءُ النهار ،  ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيءُ الليل ، حتى تطلع الشمس من مغربهـا ) رواه مسلم .

هذا الباب لايُغلق أبدا ، وهذا من فضل الله تبارك وتعالى على عباده ، ومن كرمه ــ جـلَّ و علا ــ لهم . بل إن التائب ليجد من جود الله ما لا يخطر على باله ، فلا  يساوره يأس من رحمة الله ، ولا يعتريه قنوط لمَن يسعى إلى هذا الباب الرباني . قعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده لو لـم تذنبوا لذهب اللهُ بكم ، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون ، فيغفر الله لهم ) رواه مسلم . وهنا المحك الحقيقي لقوة الإيمان لدى المسلم ، ولمعرفة المسلم مدى إقباله على هذا الفيض الرباني ، ففي الحديث الذي يرويه عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( للجنة ثمانية أبواب ، سبعة مغلقة وباب مفتوح للتوبة حتى تطلع الشمس من مغربهـا ) رواه الطبراني .

والتوبة النصوح تجديد في حياة المسلم ، تمنحه القوة والحيوية للإقبال على الطاعات وعلى الأعمال الصالحات الباقيات ، وتحثه للسعي في الإقبال على الله ، فإن العبد إذا تقرب إلى الله وأقبل عليه بصدق وشوق  ، فإن الله يتقرب إليه أكثر وأكثر ، وهذا من فضله سبحانه وتعالى . روى الإمام أحمد بإسناد صحيح قول الحافظ المنذري في الترغيب ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يابن آدم قـم إليَّ أمشِ إليك ، وامشِ إليك أُهرول إليك )  فما أعظم فضل الله ، وما أوسع عفوه . فأين أولو الألباب الذين يحفزهم ربُّهم لمناجاته ، ففي التوبة الصادقة ندم ، وفي التوبة استغفار يستغرق حـال التائب ، وهو يعلم علم اليقين : (إنَّ الحسنات يُذهبْن السيئات ) 33/ هـود .

مضى شهر التوبة ، ولكن آثاره لا تزول ، وأبواب المفاسد والمآثم والمحرمات التي أغلقتْها يــدُ الصوم المباركة ، يجب أن تبقى مغلقة على الدوام ، ولئن زلَّت القدم إلى معصية ، وهفت النفس الأمارة بالسوءِ إلى رذيلة ، فَلْيلتفتْ المسلم إلى باب التوبة ، وهو منه قريب ... قريب جدا ، وليدخل منه إلى محراب الذكر  ، وهو يتلو قول الله تبارك وتعالى : ( والذين إذا فعلوا فاحشة ، أو ظلموا أنفسَهم ، ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومَن يغفر الذنوبَ إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) 135 / آل عمران . وهذه  بشارة ربانية تملأ قلب التائب من الذنب ، وتجلو صفحة أعماله طال عمرُه أم قصر ، وخير الناس مَن طال عمرُه  وحسُن عملُه ، وأشدهم شرا وإثمــا مَن طال عمرُه  وساء عملُه ، وأما طريق الفلاح الأبدي والفوز بنعيم الخلد في الجنة إنما يُمهد له بالتوبة النصوح . يقول الله تبارك وتعالى : ( وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ) 31/ النور .

وسوم: العدد 982