الحِجاج والشِّعر (متى يَقُصُّ الدِّينُ أجنحةَ الشاعر؟)

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

 

معلومٌ أنَّ اللُّغة كلَّها، نثرًا كانت أو شِعرًا، وسيلةُ اتِّصالٍ بين مُنْشِئٍ ومتلقٍّ، لا تتمُّ وظيفتُها إلَّا بكيفيَّةٍ من التأثير والإفهام والإقناع، ولكن ما كلُّ تأثيرٍ أو إفهامٍ أو إقناعٍ يُعَدُّ حِجاجًا، إلَّا بالمعنى الفضفاض جِدًّا لمصطلح الحِجاج، الذي لو سُلِّم به، لبات كلُّ خِطابٍ ضربًا من الحِجاج. وهذا الضرب الفضفاض جِدًّا من مفهوم الحِجاج هو ما نجده في نظريَّة (أوزوالد ديكرو) و(جون-كلود أنسكومبر) في الحِجاج، المنطلقة من أن الوظيفة الأساس للُّغة: الحِجاج.(1) ومن هنا غدا مفهوم الحِجاج متجاوزًا المفهومَ التقليديَّ للحِجاج، بمعناه الجَدَليِّ المنطقي، شاملًا في اللُّغة ضروبًا ممَّا بات يُطلَق عليه مصطلح «الحِجاج»، بما في ذلك (الحِجاج البلاغي الشِّعري)، أي أدوات الشاعر اللُّغويَّة البلاغيَّة للتأثير والإفهام والإقناع والمغالطة أو السفسطة.(2)

ولقد رأى بعض المحدثين من الغربيِّين ما رآه بعض العَرَب القدماء في الحِكمة من ضعفٍ شِعري، وأنَّ الدِّين «يَقُصُّ أجنحة خيال الشاعر».(3) إلَّا أنَّ (ت. س. إليوت)(4) يُرجِع ضعف الشِّعر الدِّيني- والفِكريِّ إجمالًا- إلى النِّفاق وقِلَّة الشُّعور الصادق بما يعبِّر الشاعر عنه. من حيث إنَّ الشِّعر ما هو إلَّا خلاصة التجربة الإنسانيَّة بآفاقها الروحيَّة والفِكريَّة، العاطفيَّة والذِّهنيَّة؛ ولا معنى للزَّعم أنَّ ضربًا من الموضوعات أصلح من غيره للتعبير الشِّعري. مدار الأمر في النهاية على صِدق الشاعر وموهبته، المتضمِّنة ملكة التمييز الدقيق بين لغة الشِّعر ولغة النَّثر. وما الموضوع بعدئذٍ سِوَى جادَّةٍ، يَطرقها الشاعر فيترك عليها أثره، شِعرًا كان أو نثرًا.

أجل، لقد كانت للحِكمة في الشِّعر العَرَبيِّ القديم منزلتها، التي تنامت في نهايات العصر الجاهليِّ، إذ أحسَّ الناس خطورة الشِّعر- الذي «يُدني مروءةَ السَّريِّ ويُسري مروءةَ الدَّنيِّ»- في إثارة الفِتن بين العَرَب؛ فانقلبوا عليه، مقَدِّمين الخطيب على الشاعر، لما كان الخطيب يضطلع به من دَورٍ في التوجيه الأخلاقيِّ، والدَّعوة للسلم، وتحسين انتباذ العصبيَّات القبليَّة.(5) ولعلَّ مدرسة (زُهير بن أبي سُلْمَى) الحِكْميَّة ما جاءت إلَّا ردَّة فعلٍ للشَّعبيَّة التي صارت تحظَى بها الخطابة على حساب الشِّعر، في محاولةٍ لاستعادة دَور الشِّعر في المجتمع العَرَبي.  

ولمـَّا كان العصر الأمويُّ، واشتدَّت العصبيَّات السياسيَّة والقَبَليَّة معًا، عاد الشِّعر مؤجِّجَ نيرانها بين الناس. فنشأ اتجاهٌ معاكسٌ لتيَّار الشِّعر السائد، يتبنَّى الحِكْمة والوعظ، مؤسِّسًا لشِعر الحِكْمة والتأمُّل الرُّوحاني في الشِّعر العَرَبي. حتى أصبح من علماء القرن الثاني للهجرة مَن لا يَطرب من الشِّعر إلَّا لما جاء مواعظ أو حِكَمًا، مثل (أبي محمَّد اليزيدي)، مؤدِّب (المأمون).(6)

ولعلَّ (يزيد بن الحَكَم الثَّقَفيَّ) كان أحد مؤسِّسي الشِّعر الحِكْميِّ البارزين في العصر الأُموي، كما أسَّس (الكُمَيتُ) لفنِّ المدائح النبويَّة، وأسَّس (جريرٌ) و(الفرزدقُ) و(الأخطلُ) لفنِّ النقائض. ولا غَرْوَ، فالعصر الأُمويُّ كان عصر التأسيسات الثقافيَّة العَرَبيَّة بشتَّى أوجهها.

وللحديث بقيَّة.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) انظر في هذا: المبخوت، شكري، (د.ت)، نظريَّة الحِجاج في اللُّغة (ضِمن كتاب «أهم نظريَّات الحِجاج في التقاليد الغربيَّة من أرسطو إلى اليوم»، بإشراف: حمَّادي صمّود)، (تونس: جامعة الآداب والفنون والعلوم الإنسانيَّة)، 351- 385؛ العزاوي، أبو بكر، اللُّغة والحِجاج؛ الخِطاب والحِجاج.

(2) وهذا ما أخذَ بتوسُّعِه بعض الدارسين، مثل (سامية الدريدي) في كتابها «الحِجاج في الشِّعر العَرَبي: بنيته وأساليبه».

(3) انظر: درو، إليزابيث، (1961)، الشِّعر كيف نفهمه ونتذوَّقه، ترجمة: محمَّد إبراهيم الشوش، (بيروت: مكتبة منَيمَنة)، 313.

(4) يُنظَر: م.ن، 314.

(5) يُنظَر: الجاحظ، (1975)، البيان والتبيين، تحقيق: عبدالسَّلام محمَّد هارون، (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 1: 241.  

(6) يُنظَر: ابن المعتزِّ، (د.ت)، طبقات الشُّعراء، تحقيق: عبدالستَّار أحمد فرَّاج، (مِصْر: دار المعارف)، 275.

(*) تنويهان: أوَّلًا، ما زالت القصيدة التناظريَّة تواجه أحيانًا إشكالًا في النشر الصحفي السليم. وهذا ما حدث لقصيدتي المنشورة الأسبوع الماضي، تحت عنوان "أُمِّيـَّة الأوطان وحاسوب الفساد!"، المدينة الأسبوعية، ص17. حيث ظهرت في الطبعة الورقية وكأنها مقالة، لا بتنسيق قصيدة، كما كانت في الأصل! ثانيًا، عُدِّلت كلمة "تَقْرَؤُوْن"، في البيت قبل الأخير لتصبح هكذا: "تَقْرَأُوْن"! والحقَّ أنَّ تعديل إملاء الهمزة المتوسِّطة في مثل هذه الكلمة، لجعلها على ألف، هو مذهبٌ إملائيٌّ شائعٌ، لكنه مرجوح، من اعتادَ عليه حاولَ فرضه على الرسم الإملائي الأصوب، حسب القاعدة القياسيَّة المعروفة في رسم الهمزة المتوسِّطة. وإنْ كان عصر التصحيح اليدويِّ الاجتهادي- الذي قد يقلب الصواب خطأً- قد وَلَّى اليوم، وأغنت عنه الحواسيب، ومحرِّكات البحث، لمن شاء الحرص على الصواب، ومراجعة ما دَرَجَ عليه؛ لكي يُريح ويستريح من هواية التصحيح!

وسوم: العدد 985