الثورة التحريرية الكبرى 1954 / 1962، حتمية تاريخية

بداية هذا المقال ستكون من العام 1830 ، الذي شهد استيلاء الفرنسيين ، على مدينة الجزائر . ومنذ هذه السنة خلقت دولة الاحتلال ، معضلة لباريس لا حل لها . ولذلك فهي لم تستطع ، إيجاد مخرج طوال 132 سنة من الاحتلال الغاشم . ولتتعمق المشكلة أكثر ، مع قرار اللجنة الإفريقية في 1834 . والذي بموجبه تقرر بقاء فرنسا في الجزائر ، ثم تقرر إلحاقها بالممتلكات الفرنسية في العام 1848 . وانطلاقا من هذه القرارات ، فقد أنشأت فرنسا في الجزائر كيانا ، أساسه القهر والجور والظلم . وهذا الأخير أصبح دينا للمعمرين ، تجلت مظاهره في كل ما هو استبدادي وقمعي ، ومستورد من العالم السفلي . كالتقتيل والتذبيح والاغتصاب ، والتفقير والتجويع والسلب والنهب . وكل هذه الجرائم تفانى الكولون ، في ممارستها ، وأخلصوا إليها طوال فترة استعمارهم للجزائر .  ورغم تجدر النظام الاستعماري فيها ، إلا أن أهلها كانوا متيقنين ، بأنه لا محالة زائل طال الزمن أو قصر .

وخلاصة القول أن أكذوبة الجزائر الفرنسية ، لم تكن لها أسس تقوم عليها . وتعطيها شرعية تمكنها ، من ضمان استمرار وجودها في الزمن . وإنما اعتمدت على القوة الغاشمة ، لفرض أمر واقع لن يدوم طويلا ، لأنه مبني على الاغتصاب لا على التراضي والاتفاق . وهذا ما نجده في هذه الفقرة ، التي نقتبسها من كتاب ليل الاستعمار لعباس فرحات والتي جاء فيها : " إننا معشر الفرنسيون في بلادنا هنا ( الجزائر ) قد استحوذنا على هذه البلاد بالقوة وبسطنا سلطاننا عليها بالحديد والنار إذ لا ينجح أي احتلال إلا بالقوة ويترتب حتما عن هذا وجود غالب ومغلوب ولما كبحنا جماح الشعب الجزائري استطعنا أن ننظم البلاد وهذا التنظيم نفسه يقيم الدليل على تفوق الغالب على المغلوب أي تفوق الرجل المتمدن على الرجل المتخلف فأصبحنا أصحاب البلاد الشرعيين " . ولكنهم نسوا بأن حمل المعمر للبندقية ، لا يجعله صاحب حق . ذلك أن القوة تهاجر ، من ضفة إلى أخرى . وكان من المفروض أن ينتبه ، منظرو الاستعمار لهذه النقطة ، فالقوة يمكن أن تنهار في أية لحظة . وهذا ما حدث ، فعلى إثر ح ع 2 تراجعت قوة ومكانة فرنسا الاستعمارية . وأصبحت دولة من الدرجة الثانية ، وتغلب عليها الشعب الفيتنامي ، وأصبحت تابعة للو م أ وتدور في فلكها . كما أصبحت قزما أمام الاتحاد السوفياتي ، ونتيجة لهذه الظروف ، فقد اكتسب الشعب الجزائري المغلوب على أمره . قوة معنوية ذاتية دافعة ، للثورة على ذلك النظام الاستعماري . هذا الذي أصبح جزءا ، من الماضي وشظايا دنسة بتعبير فرحات عباس . كما اكتسب قوة خارجية متمثلة ، في الدعم الأفروآسياوي ، ودعم الكتلة الشرقية بما فيها الصين الشعبية . مما سيجعل القوى ، بين الطرف الجزائري والجانب الفرنسي تعرف نوعا من التوازن . على عكس ما كان عليه الحال في العام 1830 ، يومها كانت الجزائر تتصدى بمفردها لفرنسا الاستعمارية الغازية . كما أن جل الحبال التي كانت ، تمد النظام الاستعماري القديم بالقوة . قـُطِـعت لكوننا أصبحنا نعيش ، في عالم يحتكم إلى القانون - ولو بصورة نسبية - لا إلى القوة ، كما كان الحال في القرون لماضية . وفي عالم ممجد ومؤيد ، لموجة التحرر لا للنظام الاستعماري التقليدي المباشر . فهذا الأخير أصبح يشكل عبئا وحملا ثقيلا ، على الضمير الإنساني ، وجريمة يتوجب إنهائها في أقرب الآجال ، وكل هذا تبلور في الفترة ما بعد 1945 . كما أن التعويل على القوة لوحدها ، لم يعد ينفع فهي من أدت إلى حربين كونيتين . واللاعبون الجدد يدركون ، مدى خطورة استخدام القوة في المستقبل ، ولهذا فإنه يتوجب عليهم تحييدها . 

إن فرنسا ولتثبيت وجودها في الجزائر ، اعتمدت على القوة . ولمَّا زالت قوتها العسكرية ، زالت معها شرعية بقائها في الجزائر . لكون وجودها بقي دوما مرفوضا ، من قبل الجزائريين . وحملتها العسكرية في العام 1830 ، في نظرهم ما هي إلا اعتداء على شعب ودولة . ولهذا بقي وجودها غير شرعي ، وضد إرادة الجزائريين . صحيح إنهم رضخوا لإرادة القوة ، ولكن جذوة المقاومة بقيت مشتعلة بداخلهم . وقانون القوة هو الآخر ، كان مرفوضا خاصة وأن فرنسا الاستعمارية . كانت تطبقه على الجزائريين ، وترفض أن يطبق عليها ، وهذه الازدواجية هي من خلقت دوافع الثورة بين  الجزائريين . فبأي حق يحكم الفرنسيون أرضهم وأرض الجزائريين ، وممنوع على الأخيرين حكم بلادهم أو أن يكونوا سادة فيها . فضلا على أن يحكموا الأراضي الفرنسية ، وهذا المنطق المقلوب كان مرفوضا من قبل الشعب الجزائري .

ولذلك فالجزائر ، ومنذ العام 1830 ، لم تهدأ ثوراتها . وما الثورة التحريرية الكبرى . إلا استمرار للثورات السابقة ، التي فشلت في طرد المستعمر الغاصب . ولهذا فقد كَـيَّـفَ الجزائريون ، نضالهم بعد 1919 وتحولوا إلى النضال السياسي . ولكن الثورة بقيت حاضرة ، ولم تغب عن مشاريعهم . وبقوا يتحينون الفرصة ، للثورة على فرنسا واستعادة بلادهم المغتصبة وسيادتهم المسلوبة . صحيح أنهم فشلوا ، طوال القرن ال 19 عشر . لكون الظروف العامة كانت ضدهم ، ولكن مع 1954 فقد تغير كل شيء لصالحهم . فكان النصر حليفهم هذه المرة ، خاصة أن فرنسا وبطريقة مستفزة ، حاولت تحويل قطعة من الشرق إلى قطعة غربية ( فرحات عباس ليل الاستعمار ) . ولكنها فشلت ، ولم تحقق ما كانت تصبو إليه . ولذلك لم يكن يربط الشعب الجزائري ، بها سوى ضريبة الدم المراق لأجل مصالحها (فرحات عباس الجزائر من المستعمرة إلى الإقليم الشباب الجزائري ) . ضريبة دفعها الجزائريون لأجل فرنسا ، كلما دخلت في حرب استعمارية عدوانية ، أو في حرب دفاعية لعجرفتها وسوء خياراتها . وعليه فالجزائر لم تكن بالنسبة لفرنسا ، سوى خزان بشري تستخدمه أينما وكيفما شاءت . ومورد للخيرات والثروات ، تنهبه كما تشاء ، وما كان هذا الوضع ليستمر إلى ما لا نهاية .

وعطفا على ما سبق فإننا ، عندما نقول بأن فرنسا خلقت بغزوها للجزائر ، مشكلة لا حل لها ، بعد أن قررت إلحاقها العام 1834 . فهذه المشكلة وكما خلقت بالقوة ، فكذلك لا حل لها إلا بالقوة . ومن هنا تأتي حتمية الثورة الجزائرية ، لتفك ذلك الارتباط غير المقدس ، والمفروض على الجزائريين . وهذا ما حدث خلال فترة حكم ديغول ، هذا الذي يخبرنا في مذكراته ، بأنه لم يخطر بباله قط ، أن يحل معضلة قائمة منذ 130 سنة . نعم إن الوجود الفرنسي في الجزائر ، كان ضد إرادة الجزائريين . ولم يقبلوا به مطلقا ، طول حقبة الليل الاستعماري الطويل . وإنما خانتهم القوة لتجسيد إرادتهم ، فهم لم ينسوا أن سيادتهم غُـيِّـبَـتْ ، بالقوة نتيجة لاعتداء 05 جويلية 1830 . وكانوا دوما رافضين للاستعمار ، وعلى استعداد للثورة عليه . وهذا ما نجده في خطاب ، محمد الأمين دباغين العام 1947 ، في البرلمان الفرنسي ومما جاء فيه : " ... إن إرادة ورغبة الشعب الجزائري في الاستقلال ليست ناجمة فقط عن كون الاستعمار فشل بالمعنى المادي للكلمة ، لأن هذا سيعني مثلا أن الاستعمار لو نجح في تحسين مستوى معيشة المسلمين ، كان سيجرنا ربما إلى تقبل فقدان شخصيتنا وسيادتنا وثقافتنا بالرضا ، وهذا كله مناف للحقيقة . فحتى لو افترضنا أن فرنسا حققت معجزات فيما تسميه مستعمرتها الجزائر ، وحتى إن كانت كل الأكاذيب المتداولة حول إيجابية الاستعمار المزعومة حقيقة ، وحتى لو كان الشعب الجزائري كما أكدوا لنا قد انتقل من بائس تحت حكمه الذاتي وأصبح بحكم النار الفرنسية الشعب الأكثر سلامة وثقافة ورقيا " وعليه فجذور الثورة الجزائرية ، لا ترجع إلى غرة أول نوفمبر 1954 ، أو إلى العام 1945 . وإنما إلى لحظة نزول المحتل ، شاطئ سيدي فرج واغتصاب الأرض ، وتغييب بالقوة للدولة الجزائرية .

نعم إن المعضلة ، التي خلقتها فرنسا في الجزائر . لا يمكن إيجاد حل لها ، إلا عبر القضاء الفوري على النظام الاستعماري . وتجسيد العدالة ، والمصالحة الحقيقية في الجزائر . ولكن تعصب الكولون وتنكرهم ، للحقوق المشروعة للجزائريين . ولكل المشاريع الإصلاحية ، التي كانت من الممكن أن تمتص غضب الجزائريين . وأن تبعد فكرة العمل الثوري ، ضد فرنسا في الجزائر . كفكرة الإدماج الجماعي للجزائريين ، في الأمة الفرنسية التي طالب بها فرحات عباس . في فترة ما من نضاله أحد أبرز بنود برنامجه ، لم تكن فكرة مبتكرة من قبله ، لأن هناك من الفرنسيين من سعى في هذا الاتجاه . وعلى رأسهم النائبان ميشولان وكوتي ، اللذان طالبا في العام 1887 ، بضرورة منح الجنسية الفرنسية وبصورة جماعية للجزائريين . وجاء بعدهم عدد لا بأس به من الساسة ، ممن ساروا على منوالهم ، من أمثال ألبان روزي وجورج ليون . وما عجز هؤلاء عن تحقيقه ، تبناه فرحات عباس . وحاول إكمال المسيرة ، ولكن الجميع اصطدموا بصخرة الكولون . التي أجهضت هذه المشاريع ، العادلة والحاملة لتلك المطالب المشروعة . والنتيجة الحتمية لفشل هذا الضرب ، من النضال هي الثورة التحريرية الكبرى ، مصداقا لقول لينين ، ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة .  

كما أن ما جعل الثورة التحريرية ، حتمية تاريخية هو أن الجزائريين . ما كانوا ومنذ العام 1830 ، ليخرجوا من مصيبة بسبب الاستعمار ، إلا ليدخلوا في واحدة أسوأ منها . وكان أبرزها حملات الإبادة الجماعية ، وعمليات التقتيل الممنهجة والمنظمة . وتلك القوانين الظالمة ، وذلك الكم الهائل من  المجاعات . وكل هذه الويلات قاساها الشعب الجزائري ، طوال القرن ال 19 قرن الأحزان ، مرورا بظروف ح ع 1 و ح ع 2 . فمثلا ها هي فرنسا ، في فترة الحرب العالمية الثانية . تجرد الجزائر من خيراتها الاقتصادية ، لإطعام أوروبا ومن ثمة معاناة الشعب من مجاعة شديدة ، ومن أمراض قاتلة . هذا بالإضافة إلى أنها ( الجزائر ) ، قدمت زهرة أبنائها ، لميادين القتال كجنود ، أو لمصانع الإنتاج كيد عاملة في أوروبا (أبو القاسم سعد الله الحركة الوطنية الجزائرية الجزء الثالث ) . بعدها تأتي مجازر الثامن ماي 1945 ، لتدفن القنابل الفرنسية من تبقى من الجزائريين أحياء . والهدف من وراء كل هذه الإجراءات القمعية ، يتمثل في تحقيق السلام الفرنسي المزعوم ، وبكل الوسائل التي تمتلكها فرنسا . وما كانت هذه الجرائم ضد الإنسانية ، لتمر من دون قصاص عادل . والسلم الذي أرساه الجنرال دوفال ، لمدة 10 سنوات كما صرح بذلك ، عقب مجازر الثامن ماي الرهيبة . ما هو إلا الهدوء الذي يسبق العاصفة ، التي ستقتلع النظام الاستعماري من جذوره . ولئن كان عملاء فرنسا المخلصين ، لن ينسوا تلك الفظائع ، ولم يستطيعوا هضم تلك الوحشية . التي كانت تحتكم إليها تصرفات هؤلاء ، الجبابرة والطغاة . فكيف هو الأمر مع الجزائريين ؟ ، فها هو أحد الباشاغوات ونقلا عن المؤرخ محمد العربي الزبيري يقول : " ما حييت لن أنسى تلك الاغتصابات والحرائق وتلك المدافع الرشاشة وتلك الجيوش المدججة بالسلاح والاعتقالات والإعدامات الجماعية " ، فكيف ينساها الوطنيون الجزائريون الأحرار ؟؟؟ .

وما كان يغذي لتلك الأعمال الوحشية ، هو ذلك الكم الهائل من الكره . الذي كان يكنه الكولون للجزائريين ، فها هو عباس فرحات يخبرنا ، في كتابه ليل الاستعمار . بأن الأوروبي يكره العربي ( الجزائري ) كل الكره ويتجلى ذلك في العواطف والأقوال نعم إننا نحس أن في القلوب أمواجا متلاطمة من الحقد والازدراء ولذلك فلم يتخذ العنصر الأوروبي سوى الظلم كدين له في الجزائر المحتلة وهذا الطريق سلكوه لكونهم اعتقدوا بأنه أقرب السبل لجعل الجزائر إقليما من فرنسا ووطنا أبديا لهم ولكونهم يظنون بأن العربي أي الجزائري لا يفهم سوى لغة القوة ولما فشلوا في تحقيق هذه الأهداف فالنتيجة الحتمية كانت الثورة بهدف إنزال البديل على أرض الواقع لأنه لا يمكن لأي شعب أن يبقى يرزخ تحت نير تلك المظالم إلى الأبد .

نعم إن النظام الاستعماري الفرنسي في الجزائر ، كان نظاما يصادم جوهر الإنسانية . لكونه يقوم على الظلم والاستعباد ، والإقصاء والميز العنصري ويتكأ على الجانب الحيواني في العنصر البشري . ولذلك فهو يتنافي مع أبسط حقوق الإنسان ، المشروعة وهو يتجاوز حتى شريعة الغاب ، التي وعلى الرغم من قسوتها ، إلا أن فيها عدالة قائمة . ولذلك فلئن طال الزمن أو قصر ، فإنه لمن الواجب تصفية هذا النظام الشاذ ، إما بثورة داخلية أو عن طريق التدخل الخارجي ، عبر الضغط والحصار كما هو الحال مع نظام الأبارتيد في جنوب إفريقيا سابقا . ولذا فالثورة الجزائرية ، كانت حتمية حتى يستفيق الضمير الفرنسي الحي . ومعه الضمير الإنساني ككل ، ليرى الجميع حقيقية الاستعمار البشعة . وفداحة الجريمة المقترفة في حق الجزائريين ، والمستمرة في الزمان والمكان ، منذ أكثر من قرن من الزمن . وماذا يفعل الجزائريون ، في ظل التعصب المقيت للكولون . هؤلاء الذين كانوا يرفضون ، أية صيغة من صيع التعايش مع الجزائريين .

ونتيجة للوضع المسدود ، فإن الجزائريين توقعوا الثورة . منذ ثلاثينيات القرن العشرين ، فها هو عباس فرحات يرد ، على رئيس الوزراء الفرنسي دالاديي بالقول : " إن السياسة التي تفسح للآمال مجالا فسيحا ثم تخيب تلك الآمال ... إنها لسياسة ذات عواقب وخيمة مآلها الفراق والطلاق " . وهو هنا يقصد أن انفصال الجزائر ، عن فرنسا أمر لا شك فيه ، كنتيجة لسياسة المستعمر الفرنسي في الجزائر . ومن جهة أخرى فإننا نجد كل العالم ، لا يحترم أي شعب يستكين للقهر والعبودية . وإنما العالم يحترم ، من يثور على الظلم ويسترد حقه المسلوب ، بنفس اللغة التي يفهمها جلادوه. وحتى الجيش الفرنسي العامل في الجزائر ، فهو لم يكن يدافع عن شرف فرنسا ، ولا هو خاض حربا عادلة . وإنما زجه ضبّاطه في حرب ، من أجل مصالحهم الشخصية . تلك المصالح المرتبطة بالكولون ، ممن كانوا يصبون عليهم المال صبا ، في شكل هدايا ورشا ليبقوا لوحدهم سادة الجزائر .

ولذلك ففرنسا لم تستخدم ، طوال وجودها في الجزائر . سوى القوة الغاشمة لإخضاع الجزائريين ، وكانت تظن بأن هذا الأسلوب ، كفيل بضمان بقائها في الجزائر . ولكن الاستخدام المفرط للقوة ، المقترنة بالظلم والاستعباد . قوة استخدمت لإقامة دولة الجور والقهر ، لا دولة العدالة . فقد أدت إلى وضع حاجز كثيف بين الجانبين ، وأصبح الحوار بينهما حوار أصمين لا يسمع أحدهما الأخر . وأصبحت قصة الذئب الشرس والحمل البريء يعيشها الشعب الجزائري وبصورة يومية كما قال فرحات عباس . ولذلك فالنظام الاستعماري ، كان نظام عصابة لصوص ومافيا ، بتعبير اليوم ونظام همج وبرابرة ، قدموا من العصور المتوحشة والبائدة . وعليه فما دام الاستعمار ، ذئب لا يستخدم سوى لغة الناب والظفر ، فلتكن هذه الأخيرة لغة التعامل معه . والاستعمار هنا لم يعد يفهم ، بأن عصر استخدام القوة قد ولى وانتهى . وأننا في عالم جديد ، عالم غير عالم غفلة القرن التاسع عشر .

نعم تلك الغفلة التي قهرت فيها فرنسا الجزائريين ، وأرعبتهم لدرجة أنهم أصبحوا يطلقون عليها تسمية الرب الصغير ، دلالة على مدى ضخامة إرهابها وقسوتها وجبروتها . مما جعل أغلبيتهم لا يتوانون ، في المشاركة في أي عمل ثوري ضدها . لأنهم فقدوا كل شيء ، وليس لديهم ما سخسرونه ، متى ثاروا عليها مجددا . أما من كانوا يناضلون ، بأدوات فرنسا الجمهورية . فقد اكتشفوا بأنهم يجرون ، وراء سراب وأوهام وخرافات الماضي البعيد ، والمقصود هنا مبادئ ثورة 1789 . وما زاد من حدة صدمتهم ، أن أحرار فرنسا متواطئون مع النظام الاستعماري . ولهذا فقد أصبحت الدولة الفرنسية ، بيمينها ويسارها في خندق واحد . وفي مقابل هذا تكتل الجزائريون ، ضد خرافة الجزائر الفرنسية ، التي يرفضها الواقع ، والحاضر والماضي والتاريخ والجغرافيا . وها هو عباس فرحات يخبرنا عن خيبته ، - وهو رجل معتدل - في النخب الفرنسية وفي الفكر الفرنسي قائلا : "  إن الذكاء الفرنسي قد عجز وأصابه الإفلاس ، فذلك الفكر الذي ما فتئ ينادي بضرورة ارتقاء الرجل المستعمر من درجة العبودية إلى درجة الحرية ، لا يحرك ساكنا حين تمرغ في الوحل كرامة الإنسان المغلوب على أمره " . 

ونتيجة لذلك فإن الشعب الجزائري ، كتم أنفاسه فهو تحت رحمة حكومة باريس ، وتحت رحمة حكومة الكولون في الجزائر . وما يتبع من قوانين استثنائية ظالمة ، وجثموا على صدره كصخرة سيزيف . فلا هو يستطيع العيش في المدن ، نظرا للتمييز العنصري البغيض ، الممارس ضده . لكون تلك المدن قد تحولت إلى تجمعات مغلقة ، وأوقفت حصرا على العنصر الأوروبي . كما لا يمكنه العيش في السهول ، لتحول ملكيتها إلى الكولون . ولا العيش في الجبال ، لوجود قانون الغابات ، الذي يكبله . ثم إن هؤلاء الكولون قد رفضوا ، أية مبادرة تأتي من الجزائريين ، أو من قبل حكومة باريس . تبشر بالتعايش المشترك ، بين مختلف سكان الجزائر ، وترسي قواعده . فهم من أقبروا مشروع بلوم فيوليت الإدماجي ، وحاربوا عباس فرحات ، المتصالح في فترة ماضية من حياته النضالية ، مع الوجود الفرنسي في الجزائر ، ونعتوه بالكلب . أما أنصار التيار الاستقلالي ، فتعاملوا معهم بالرصاص الحي . وعلى الدوام كانوا يحيون ، فظائع سانت أرنوا وبيجو . ثم إنهم رفضوا أية إصلاحات ، ومهما كانت تافهة لصالح الجزائريين ، وعلى رأسها إصلاحات 1919 . والنتيجة هي أن هذه السياسة الاستعمارية الرعناء ، قد جعلت كل المشاريع المعتدلة في الجزائر . تخسر القاعدة الشعبية ، لصالح الاتجاه الثوري ، ولصالح دعاة الاستقلال .

وهكذا تضاءلت مساحة ، الحلول الوسطى بين الطرفين . بسبب إفشال الكولون ، لأية محاولة ومهما كان حجمها ، للتعايش المشترك في الجزائر . ما داموا هم الغالبون ، والجزائريون في خانة المغلوب . وهذا الوضع ظنوا بأنه يخدمهم ، وما همهم المستقبل . وهذا ما يصادفنا بشكل جلي وواضح ، في رد أحد رؤساء البلديات على عباس فرحات . الذي ناقشه في مسألة ، ضرورة إصلاح الأمور . لضمان مستقبل الجميع ، من دون استثناء فكان رده : " إن المستقبل لا يهمني ، نحن الآن أسياد ومن بعدنا الطوفان ". . وبالفعل فقد جرفهم طوفان الثورة ، لأنهم لم يكونوا سوى براميل منتفخة ، كما وصفهم الرئيس الفرنسي يومئذ . وما كانوا يملكون عقولا ، يحتكمون إليها فجرفهم التيار . لأن الفكر الاستعماري بتعبير المؤرخ شارل أنديه جوليان فكر : " جامد ، لا يفكر إلا في مصالحه الضيقة التي تعني فلسفته  الهيمنة والاستعباد " ولا هَـمَّ لهم ( الكولون ) وبشهادة فرحات عباس سوى : " تحقيق الثروة بحيث لا يقدمون أي تضحية بدمائهم إلا من أجل غناهم وامتيازهم ، نحن نشقى بسبب استخفافهم وكرههم ". وهذه مشكلتهم ويتوجب عليهم حلها ، فليس من المنطق أن تبقي أمة ، بكاملها تشقي لتسعد حفنة من المعمرين . ولئن كان الكي آخر دواء ، فليكن ولتكن معه العملية الجراحية . فالجزائريون كانوا مستعدين لها ، مهما كانت مؤلمة . لفكّ عُرى الارتباط غير الطبيعي ، المفروض على الجزائريين بقوة الحديد والنار .   

ولذلك فقد تنبأ فرحات عباس ، على سبيل المثال لا الحصر . منذ العام 1931 ، بنهاية النظام الاستعماري في الجزائر . حيث أكد بأن الاحتفال بالذكرى المئوية الأولى ، للغزو الفرنسي للجزائر ستكون آخر احتفالات هؤلاء المحتلين ، وآخر نشوتهم على أرض الجزائر . وهذا ما كان بالفعل لأن سكوت الجزائريين على الظلم والقهر لا يعني أبد قبولهم به ، فهم ينتظرون الفرصة للثورة عليه (عز الدين معزة فرحات عباس ودوره في الحركة الوطنية ) . ونفس المسلك انتهجه الشيخ ابن باديس ، وها هو والد مصالي الحاج ، يكفر بالنظام الاستعماري . ويعتبر هؤلاء الكولون ، مجرد لصوص سرقوا وطنه ( نفس المرجع ) . وما داموا قد سرقوه ، فلا بد أن يعود في يوم ما لأهله ، وهذا ما سيصبح عقيدة لمصالي الحاج عندما يكبر . وإن هم قد أخذوه بالقوة ، فبالقوة يسترجع ، وهذا ما حدث بالفعل .

وهذه الفكرة نجدها تتكرر ، حتى عند الفرنسيين أنفسهم . وهذا ما يخبرنا به أبو القاسم سعد الله ، فقد جاء في كتابة الحركة الوطنية الجزء الثاني قوله : " كتب الدكتور فيتال الذي قضي حياته في الجزائر إلى صديقه إسماعيل أوربان بأننا ارتكبا عملا فاحشا لا أخلاقيا لا مثيل له مدعين الرد على ضربة مروحة لقد اغتصبتم جنسية وقطرا " . ولذلك قارن فرحات عباس ، بين الاحتلال الروماني والاحتلال الفرنسي للجزائر . فكلاهما قائم على الظلم ، وأنزلا الشعب إلى مرتبة العبيد . وكما أفلس الأول وزال ، فلا بد للثاني أن يماثله في المصير المحتوم ، لأن القهر وإن طال أمده فلا بد أن ينتهي ، مهما بدا لصاحبه بأنه واقع أبدي .

ونحن عندما نتحدث عن القهر ، الممارس من قبل الكولون . فإننا لا نتجنى عليهم ، فها هو غابريال عبو كبير المعمرين يصرح قائلا : " كلما أعطينا للعرب أكثر طالبوا بأكثر منه ، ثقوا بي ، إنني أعرف كيف أقهرهم " وهذه هي خطيئة الكولون الكبرى ، خطيئة عجلت برحيلهم عن الجزائر . ذلك أنه كان من المفروض ، أن يقيموا مصالحة حقيقية مع الجزائريين.  بهدف تمتين أواصر العيش المشترك ، مع كل القوميات التي تتواجد في الجزائر . لا أن يكون كل همهم ( الكولون ) ، كيفية قهرهم وجلدهم ، وتعذيبهم وإقصائهم للجزائريين .

كما أن تمسكهم الأعمى بأهداف الاستعمار ، وربط مصيرهم في الجزائر بمصيره . سوف يؤدي إلى الهلاك المحتم ، وكلنا نعلم بأن عجلة التاريخ تدور بسرعة ، والأحداث تتوالى الواحدة تلو الأخرى ، بلا هوادة ، وكنا نغتنم كل فرصة سانحة لنعرض على فرنسا حلولا إيجابية ، ومعتدلة ، تحدونا رغبة واحدة هي ضمان الحرية ، والكرامة لشعبنا وهذه هي أهداف فرحات عباس من وراء نضاله ضد النظام الاستعماري ( نفس المرجع ) . والدعوة إلى الإصلاح قبل فوات الأوان ، لم يتبناها فرحات عباس وحده . بل يشترك فيها مع عقلاء الفرنسيين أنفسهم ، فها هو المستشرق الفرنسي أوكتاف ديبون ، يدعو صراحة إلى ضرورة بناء مستقبل مشترك للجميع ويخبرنا بذلك في قوله : " لنسرع لفتح أبواب المساعدة الطبية الواسعة والمنظمة ، وفتح المدارس في كل مكان ، وخاصة مدارس البنات ، وأن لا نفكر في التأخر ، لنضع برنامجا من أجل تحقيق اندماج كامل للأهالي ، وذلك لبناء جيل المستقبل " . ونفس الأمر نجده ، عند الحاكم العام الفرنسي للجزائر موريس فيوليت  ، هذا الذي ألف كتابا يحمل عنوان ، هل ستعيش الجزائر في العام1931  ومما جاء فيه : " إن فرنسا ارتكبت خطأ غير مسموح ، لأنها لم ترد أن تعرف ، و لا أن تسمع ." لأن غلاة الكولون يؤمنون ، بجزائر القرن التاسع عشر . جزائر تجاوزتها أحداث التاريخ ، فجرفهم طوفان الثورة الجزائرية إلى غير رجعة .

وهذا ما جعل الجزائريين منذ ق 19 ، على الرغم من هزيمتهم العسكرية . إلا أنهم قد أبقوا على روح المقاومة وجذوتها حية ، آملين في الخلاص في يوم ما . فها هو الدكتور فيتال السابق الذكر ، يخبر صديقه إسماعيل أوربان مرة ثانية . بأن سلطتنا في الجزائر ستزول ، كما زالت سلطة اسبانيا والبرتغال . حيث لاحظ أن عبارات الجنسية والإسلام على سبيل المثال ، تثير حماس الجزائريين ، كما لو كانت كلمات سحرية ( أبو القاسم سعد الله المرجع السابق ج 2 ) . ولهذا فالجزائريون كانوا ينتظرون ، بثقة ساعة الثأر ( نفس المرجع ) . ومتى زالت قوة فرنسا العسكرية ، فقد حانت ساعة الخلاص وهذا ما كان عقب ح ع 2 .

والمستوطنون أنفسهم كانوا ضحايا ، لمنظومة قيم خاطئة ومفلسة ومنحطة وبائسة . قيم تعطي للاستعمار شرعية ، وتبرره من الناحية الأخلاقية . حتى أن ضمير الكولون ، المعانق لها قد مات . فلم تعد مشاهد البؤس المتفشية في الجزائر الفرنسية ، تثير فيهم أدنى شعور بالرحمة أو الشفقة . بل أصبحت مشاهد بحث الجزائريين ، عن فتات الخبز في مزابلهم ، لا تهز ضميرهم الميت . فهم من أنزل هؤلاء البؤساء ، إلى تلك الوضعية . وهم من يكافحون لإبقائها قائمة ، لاعتقادهم بأن ذلك هو الوضع الطبيعي . الذي يجب أن يكون عليه الجزائريين ، لأن قوتهم تتغذى من ضعفهم . ولأن المعمر يرى نفسه الرجل الأعلى ، وهو هنا ينطلق من فلسفة القوة لنيتشه . والمستوطن صدّق هذ الكذبة ، وظن بأنه الإنسان الأعلى والأقوى . وأن من حقه أن يبيد ، الأعراق الأخرى التي يعتبرها أعراقا منحطة ويرث أراضيها . والجزائري عنده إنسان أدني ، لم ينفصل بعد عن القرد . لكونه لم يصل ، إلى مرحلة التطور القصوى ، التي وصل إليها الإنسان الأوروبي . وعلى العكس من هذا ، فالجزائري لم يعتقد في يوم من الأيام . بأن الأوروبي فرنسيا كان أو ايطاليا أو اسبانيا أو مالطيا هو حقا أعلى منه . ربما يخضع له حين يكويه العدو بالنار ويجلده بالسوط ويكبله بالسلاسل ولا شيء غير هذا ( عباس فرحات ليل الاستعمار ) . ولذلك فعباس فرحات يخبرنا ، بأن ما هو موجود في قدم الجزائري أفضل مما هو موجود ، في عقل ذلك المستوطن البليد . وعليه فالجزائري قد كان ، على الدوام ينتظر الفرصة لإعلان الثورة ، بهدف التخلص من قيوده . ولذلك فالمستعمر هو من خلق من الجزائري عدوا له ، وهذا من خلال تلك المعاملة الهمجية . التي استوردها من عصور البرابرة البائدة ، وهو وضع شاذ كان لا بد أن يصحح طال الزمن أو قصر .  

والنتيجة المباشرة لما يعتقدونه في الجزائريين ، هي استحالة التعايش بين الكتلتين . لكون الكولون يعتبرون الجزائري رجلا منبوذا وعدوا لدودا وإنسانا ناقصا (نفس المرجع ) . ولذلك حاولوا إبادته طوال القرن ال 19 ، ولما فشلوا أقاموا نظاما قائما أساسه على الميز العنصري . عقدة تفوق زائفة شعارها ، الغالب والمغلوب . وهذا ما حال دون تمازج العنصرين ، فكانت الثورة حتمية ، لإرجاع الوضع إلى حالته الطبيعية . خاصة أن الكولون قد رفضوا التعايش مع الجزائريين ، أو حتى إدماجهم في العائلة الفرنسية . وجردوا الشعب الجزائري ، من حقوقه المشروعة وأنكروها عليه . فماذا يفعل هذا الشعب ، في ظل هذا الوضع الشاذ ، الذي تجاوزه التاريخ ؟ . ولذلك فالجزائر قبل 1962 ، كانت تعيش ثنائية . ففيها جزائر غنية وعصرية ، وهي جزائر الكولون . وجزائر بائسة وحقيرة ، جزائر الجزائريين الأولي يعيش أصحابها في ترف وثراء فاحش ، والثانية تعانق الفقر المدقع ، والجوع والمرض . ولذا فالجزائر في العام 1911 قد أصبحت أكثر البلدان التي تثير الشفقة في العالم  ( أبو القاسم سعد الله الحركة الوطنية ج 2 . وانطلاقا من نظرتهم ( الكولون ) للجزائر ، فهم قد أرادوا لأنفسهم كل شيء فيها ، فخسروا كل شيء إلى الأبد . فها هو جول فيري ، يخبرنا في العام 1894 . بأنه من الصعب أن نقنع المعمر الأوروبي بأن هناك حقوقا أخرى غير حقوقه في البلاد العربية وأن العربي ليس بالعبد المسخر المجبور المسير المقهور . والكولون ومن سار في ركابهم ، من ساسة باريس ومعهم مؤسسات الدولة الفرنسية . لم يكونوا واقعيين بتعبير فرحات عباس ، الذي يخبرنا بأنه قد كان من الممكن البدء في تصفية الاستعمار . منذ العام 1943 ، كما حدث في الهند وغيرها . ولكن غلاة الكولون ومن تواطأ ، معهم من الفرنسيين ، هم من دفعوا بالجزائريين إلى الثورة لتعنتهم وتنكرهم لآبسط الحقوق المشروعة للشعب الجزائري . ولكن مع تغير مجرى التاريخ بعد ح ع 2 ، فحتى حلفاء الأمس . أو هؤلاء الذين لم تكن تعنيهم القضية الجزائرية ، أو لم يسمعوا بها كسكان أمريكا اللاتينية . لم يعودوا يستطيعون تحمل ، كم المظالم الهائل الواقع على الجزائريين . وهذا دعم نفسي ، من شأنه أن يتحول إلى دعم دبلوماسي وعسكري . وهذا ما تم بالفعل فيما بعد ، وكل هذا يدخل في خانة التحفيز على الثورة ، وعليه فقد تشجع الجزائريون وفجروها .

نعم إن هؤلاء الكولون كانوا لا يعرفون ولا يقدسون ، سوى مصالحهم وما من ولاء لهم إلا لها ، حتى الديمقراطية الفرنسية ، التي يفتخرون بها . ومتى تعلق الأمر بالجزائريين ، وبحقوقهم المشروعة ، فهم يكفرون بها . وهذا ما نجده في كتاب ليل الاستعمار لفرحات عباس ، وهو بدوره ينقل عن جريدة الاكسبريس ، للعام 1959 . التي أوردت تصريح المعمر جورج موريل ومما جاء فيه : " تسألونني عن الديمقراطية أقول لكم بأننا لا تهمنا ديمقراطيتكم أف لها من ديمقراطية ثمانية ملايين من الراتون قذرين أميين يتحدون فرنسا " . وهذه هي المعضلة الكبرى ، فالكولون يريدون جزائر ، لهم وحدهم ، جزائر من دون جزائريين . وهذه الانتقائية في التعامل مع الديمقراطية ، مرفوضة لأنهم يريدون ديمقراطية مفصلة على مقاسهم ( الكولون ) . وهو أمر واقع مفروض على الجزائريين ، يوم كانت القبضة الفرنسية تخنقهم . ولكن عقب 1945 ، لم تعد فرنسا هي فرنسا . ولذلك فإنه قد توجب ، التخلص من الإرث الاستعماري البغيض . ومن الكيانات المشوهة ، التي أقامها الكولون في الجزائر ، يقررون من خلالها مصير الجزائر والجزائريين ، كهذه الديمقراطية المزيفة .

ولقد ناضل الجزائريون ، بكل طاقتهم لتصحيح هذا الوضع الشاذ . منذ 1919 ولكن الكولون ، كانوا يجهضون أية محاولة في هذا الاتجاه . فلم يبق أمامهم سوى الثورة ، كخيار وحيد دفعهم الاستعمار الفرنسي إليه دفعا . ففي القرن ال 19 نجد أن الكولون ، أعلنوها صراحة . حينما قالوا بأنهم سيمارسون ، كل أنواع الإرهاب ضد الجزائريين ، وكل أنواع الاضطهاد . ولهذا فهم لم يتركوا خيارا ، غير الثورة عليهم . علما بأن الجزائريين ، لم يكونوا متعطشين للدماء . وإنما الاستعمار هو من زج بهم في ذلك الطريق زجا ، وكما لم يتركوا للجزائريين ، في القرن التاسع عشر سوى خيار المقاومة . لاسترداد حقوقهم فكذلك في العام 1954 ، فهم من سلبوا كل شيء ، وأرادوا أن يبقى الجزائريون ، خدما لهم أو جنودا في الجيش ، الذي كان يحرسهم ويحرس مصالحهم . ذلك أن الجزائريين حسب أدبياتهم ، مجرد كم مهمل لا يُعبأ به . وهذه قمة العنصرية والازدراء والامتهان ، لشعب بأكمله من قبل حفنة عنصرية من الكولون ، لا تهمها سوى مصالحها ومن بعدها الطوفان . وللحفاظ على تلك المصالح الأنانية ، فقد كانوا يخرقون القانون جهارا نهارا ويفتخرون بذلك . ليبقوا يتنعمون ، بينما الجزائريون يتعذبون . ويتجلى هذا في عمليات التزوير المختلفة ، التي طالت مختلف الانتخابات ، التي كانت تجرى على أرض الجزائر .

إضافة إلى ما سبق فهم لم ينصتوا ، لأية نصيحة يصدرها العقلاء والحكماء . فها هو عباس فرحات ، ونتيجة لدراسته للتاريخ الروماني في الجزائر ، ووقوفه على فشله وإفلاسه ، ولهذا فقد قد رحل عن الجزائر . على عكس الفتح الإسلامي ، الذي يراه ناجحا . ولذلك فقد نصح فرنسا الاستعمارية ، بضرورة تقليد العرب لا الرومان . وما دامت لم تستمع لنصحه ، فهذا الأمر جعله يبتعد عنها لصالح النموذج الآخر نموذج الثورة . ذلك أنه ليس من الممكن ، أن يبقي يسير خلف نموذج ظالم وفاشل . وهذا الكلام يخبرنا به ، في كتابه الشباب الجزائري . وهو رجل معتدل تجاه فرنسا الاستعمارية ، فما بالك بمن كانوا يناصبونها العداء ، ويتحينون الفرص لرمي ، ما يسمى الجزائر الفرنسية في البحر . نعم إن الكولون لم يكتفوا ، بعدم الإصغاء للنصائح . بل فرضوا منطقهم على الدولة الفرنسية ، التي تنازلت أمام الأوليغارشيات المالية ، وأظهرت ضعفها ووهنها بخصوص وعد فرنسا واحترام القانون الفرنسي وتطبيقه ، فإنه لن يبقى أمام الجزائريين سوى الاختيار بين السجن أو الجيل (عباس فرحات ليل الاستعمار ) . فعلا لقد صادفنا في الجزائر المحتلة ، أصواتا عاقلة دعت إلى ضرورة ، إصلاح الوضع قبل الطوفان . كدعوتها وبشكل صريح لا لبس فيه ، إلى ضرورة تعليم الجزائريين اللغة الفرنسية ، بهدف تحقيق الإدماج الكلي للجزائر . فبعد إدماج الأرض ، لا بد من إدماج الشعب . ولقد وجد عباس فرحات ، سندا قويا في هذه الأطروحات . وأرضية يقف ويتكأ عليها ، وهي أطروحات كانت موجودة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر . واستمرت في التواجد خلال القرن العشرين ، وهذا ما نجده عند المستعرب والمستشرق الفرنسي ألفريد ماري بال أوكتاف . في كتابه الجزائر.

وسوم: العدد 987